الأحد، 11 فبراير 2018

من الكاسيت إلى الهاتف

بانتظار ان ينام صغيرنا بيننا نتمدد انا وأمه الى جواره يمسك كل منا بهاتفه ويقلب الصفحات بصمت. يفيق الصغير بين لحظة وأخرى ويلتفت عن اليمين وعن الشمال ويعود إلى غفوته. منذ أن جاء إلى الحياة وهو يرى أبويه ملتصقان بشاشتيهما وكأنهما اذ يفعلان يمارسان فعلا وجوديا بكل تضرع وامتثال. 
ستبدو له الحياة شاشة صغيرة لماعة يُستجلب العالم من خلالها.
أتذكر في هذه اللحظة الفارق الشاسع في التواصل قبل ثلاثين سنة حين كانت امي تجلس امام "المسجِّلة" تحكي لأبي في شريط كاسيت ما تريد وما تعاني وما عاشت في قريتها. تتحدث بتودد وتوسل وتنفعل وتغضب ثم تحنو وتشفق. وتبعث بشريط مرة كل ثلاثة أشهر الى ابي المسافر بعيدا. كنت انظر اليها وهي تتحدث وتفرك أصابع رجلها وقد زال عنها حناء الصيف الأحمر الداكن. وأقول في نفسي: إذا كان ابي قريبا في المسجل فلماذا لا يخرج منها؟
كانت امي تبدأ الحديث ولا تنتهي. تعيد وتكرر وتنتقل من شاغل إلى آخر. تلخص احداث قرية منسية في شريط واحد. تتحدث عن بقرتها ودجاجاتها. عن ارض صغيرة ترعاها وتنتظر المطر طويلا من اجل سنابل سبطة من الذرة الحمراء. تسجل وقائع المواليد والموتى. وتحكى اننا - الثلاثة الأبناء يوم كنا ثلاثة فحسب. كبرنا وأننا الأولاد قد حلقنا رؤوسنا وان أحذية العام المنصرم تمزقت وان جاكيتات الشتاء الماضي صارت قصيرة. تحكي له عن شوكة تؤلمني او جرح في ركبة اخي الأصغر. وكان رد ابي يأتي بعد ثلاثة أشهر. كان صوت ابي مجلجلا باذخ الرجولة والشهامة، صارما حانيا في ان. كانت الحياة بالنسبة لنا تتجمد في كل ثلاثة أشهر ننتظر ان تأتي قرارات أبي بالموافقة أو الرفض. لم يكن للقرية فصول ترسم فواصلها الشمس والرياح. كانت كاسيتات ذلك الزمن هي الزمن وتعاقبها هو دفة التاريخ.
لقد تشابه الليل والنهار في هذه اللحظة وتسارعت الأحداث وغاب التاريخ.


الحب بين علم الاعصاب والعلوم الإنسانية

الحب بين علم الاعصاب والعلوم الإنسانية (مقال مترجم من الفرنسية) ترجمة مصطفى ناجي الجبزي افتتح في شهر أكتوبر من العام المنصرم معرض استث...