الاثنين، 25 يونيو 2012

مجموعة أساطير وهوة الإيمان!

مجموعة أساطير وهوة الإيمان!

قضي كلود ليفي شتراوس ما يقارب ثلاثة عقود من عمره يدرس أساطير جماعات هندية في أمريكا اللاتينية ليخرج بمجموعة كبيرة من المؤلفات المتناثرة والتي تمثل نقلة نوعية في علم الاجتماع من حيث النظرة الثقافية إلى الآخر. وليس بجديد القول إن الأساطير والخرافات ما تزال تمثل ترساً كبيراً في عملية التفكير لدى المجتمعات واختلاق فرص توهم الخير والشر، والانتصار والهزيمة، والعمل الصالح وسوء العمل.

وبعيداً عن الحروب المقدسة والرغبة في الجنة عبر القتل، كيف يمكننا تفهم الاستمرار في بعض العادات كالتدخين أو تناول المؤثرات الذهنية إن لم تكن طواطم تتخذ أشكالاً جديدة. وكيف هو الحب والتصوف؟ لا أتحدث عن التغييرات الكيمائية في الجسد. فقط حديثي عن جوهر العاطفة وانعكاسها على مجموعة معتقدات وسلوكيات. في الأخير المحصلة واحدة. كل الأديان تتشابه في خلق هذا الجوهر وقدرتها على التغلب على عقلنة الأفعال الإنسانية.

بالأمس صادف وان حضرت عرساً هندياً باذخاً. كان أكرم ما فيه طقوس دينية تبارك العرس. بكل ما فيها من غموض بالنسبة لي كشخص تراجعت لديه القدرة على الإيمان المجاني لكنها ملهمة جداً من حيث مثابرة الكاهن وصدقه في الأداء مع عدم إغفال حركة واحدة. رغم ان الكاهن يبدو متوسط الثراء لكن امتثال الناس له كان أمراً عجيباً. ثم بعض حركات في مراسم العرس من قبيل أن يلُبس الزوجان بعضهما عقدين من الفل تبدأ الفتاة فيحاول الهرب العريس، أقلة من ثانية تتعلق الأبصار وتشرئب الأعناق لمثل هذه اللحظة وصراخ قبيل العاصفة ثم يأتي الفرج بأن يعلَق العقد في ريشة العريس بينما تمتثل المرأة لقدر كهذا وتستكين إذ يلبسها عريسها العقد.

هذه الحركة بكل ما فيها من روحانية ولدت لدي غصة كبير هي خليط من الفرح والدهشة وحالة حزن عميقة وغموض تجاه مدلولات الطقس.

كنت أسأل نفسي لماذا ما يزال الرجل يحاول الهرب من لحظة أظنه اختارها بعمق. في الأمر "خزعبلات" بتعبير احد الصديقات وقد قالت ذلك تخفيفا عن حزني لحظتها. هل هذه خلاصة كافية لإغلاق هذا الحديث بجواب عملي.

اليوم جمعني لقاء عميق في لحظة نشوة روحية بصديق من مملكة بوتان الآسيوية. تحدثنا عن الأديان: افتتح الحديث وقال: اعرف أن المسألة شعوذة لكننا مرغمون على الاعتقاد بها.

هناك تشابه بين الدين الإسلامي ودين هذا الشعب (الديانة البوذية) التي تؤمن باليوم الأخر والجنة والنار. كاد لسان حال صديق يقول :"وإن منكم إلا واردها". ففي دياناتهم لا يخلو أحد من الذنوب والأخطاء ولذا كُتِبَ على الجميع المرور ولو سريعاً بجهنم قبل الانتقال إلى الجنة.

تحرص هذه الديانة على سلوك البشر المتوائم مع البيئة؛ البيئة الصالحة للتعبد لهذا فهي تجرم بأعنف الألفاظ تدخين السجائر وقد تبنت الحكومة تدابر صارمة تجاه التدخين بينما الكثيرون لا يزالون يدخنون الماريونا ويشربون بكثرة المشروبات الكحولية.

لكنه في سرد طريق تحدث عن يوم الحساب وقال ان ملكا يزن أعمال الناس هو في الأصل قرد كبير - لكنه بقلب طيب - يؤدي هذه المهة ويودع من حددت أعماله الذهاب إلى النار ويسلم من حددت أعماله الذهاب إلى ملِك الجنة. في الجنة ملك وفي بلاده ملك أيضا.

من نفس البلد لدي زميلة أخرى – قصيرة رقيقة غضة - أكثر تعبداً ولديها محظورات كثيرة في الأكل والشراب والكلام. وكلما هدأ الفصل أخرجت من حقيبتها كتاب ديني بالانجليزية تقرأه بعنوان الاستعداد للموت. تتحدث كثيرا عن الانسجام مع الذات والطبيعي ولديها في هاتفها صورة طفل تقول انه إعادة تجسد لإله كبير ولديه معجزات وأعمال خارقة. لا تريد أطفالاً كغاية دينية لأنها لا تريد أن تجلب للحياة طفلا يتعرض لكل هذه الآلام الدينيوية.

لكنها في أول امتحان دراسي لم تتورع عن الغش. فقررت أنا بدوري الاحتفاظ برصيدي من الإيمان. هذا ليس تغلبا أخلاقياً لكنه نافذة جديدة لهوة السؤال والحيرة.

لست هنا أوشي بسلوك زملائي. لكني اسأل أين مكانة الدين من سلوكيات الإنسان. ما هي قدرته على تقرير الحقيقة وما هو شكل الحقيقة التي تتولد عنه. هل هي بالضرورة مجموعة أساطير؟

مصطفى الجبزي

25 يونيو 2012

غازي أباد

الاثنين، 18 يونيو 2012

دخلنا الحالي...

دخلنا الحالي...

"حتى تخوم العقد الثالث من العمر تبدو النساء في الهند خصوصا في الشمال حيث أشاهد ذوات قوام استثنائي لرجال الشرق والغرب على السواء. فهن بأحجام صغيرة ومتوسطة ممتلئات الصدور وبعجوز ناهضة وذات همة."

ما من موضوع يثير الاهتمام للرجال والنساء أكثر من موضوع المرأة. حتى الصفقات التجارية يتم تأنيثها. وتبتكر أعظم المجازات ليكون الكوكب وما عليه أنثى.

أقول إن الموضوع شائق للرجال والنساء وإلا ما قضت النساء ساعات في الحديث عن امرأة إما جميلة أو قبيحة أو متغنجة أو..

لكنه من أكثر المواضيع إثارة للمشاكل وكأنه حقل ألغام خصوصاً بين زميلات العمل أو تلاميذ الدراسة أو بين الأزواج. ومع هذا يظل يقدّم إغراءات كبيرة وقاضية للخوض فيه.

مع هذا سنخوض غمار هذا الحقل غير الآمن. وسأعود الى حديثي من حيث توقفت.

"لكنهن (نساء الهند) يمتلكن بشرة طرية تتجدد كل ساعة رغم شدة الحرارة وعراء السواعد. ولا تهتم النساء في الهند بالزغب المتناثر برقة وانسيابية على الوجوه الرقاب والسواعد.

بعد هذا العمر تنتهي ضمانة (التصنيع) وتكون المرأة قد تزوجت فتهمل حالها لأن الزوج صار في الجيب.

لكن يلاحظ الزائر، خصوا في المعابد حيث يتكدس المتعبدون فتيات يحملن على جنوبهن أطفالاً عراة من النعم. فتيات صغار قادمات من أرياف الفقر والكدح وكأن المسألة طفل يحمل طفل.

من بين آلاف من النساء غير الجميلات تجد شابة وكانها ضرب أو استثناء وراثي. فحواف الوجه قدت بعناية فائقة. وانسيابية الملامح تجعلك تغرق في رهافة التشكيل.

وأجد أن الهندية لتشاهد فقط لا لترسم أو تكون في صورة. بالطبع الرجال أكثر وسامة وتباهي من النساء. لكن الغريب أنه لا يوجد في هذا المجتمع تطفل على أي من الجنسين. وبالرغم من الازدحام وحضور المرأة في كل شبر فلا أحد يكترث لأحد. فقط الكادحين هم طويلو الأعين. لكن الهنود يسمحون لأنفسهم بالتلصص على الأجانب خصوصاً النساء.

وصحيح أن الهند تدهش الزائر، لكنها أيضا تندهش من الزائر أكثر.

أسير في تجوالي برفقة زملاء الدراسة ونحن من قارتي آسيا وأفريقيا وبيننا الأبيض والأسود والأصفر والشقراوات.

ونمر بين الصفوف فتتوجه إلينا الأنظار على نحو جماعي لا يستطيع كبح جماح فضوله. لا يمتنع الهندي البسيط عن الضحك في وجهك إذا كنت غريبا ومدهشا بالنسبة له. وقد يحملق فيك كماعز بلهاء.

من بين الرفاق فتيات من الخاصرة الإسلامية لروسيا وينظرن إليهن النساء رغم احتشامهن وكأنهن في غاية التبرج بينما تكون الناظرة ببطن وظهر عاريين في لباس الهند التقليدي.

بالنسبة لي لا أثير اهتمام أحد لأني هندي كامل الملامح، وكثيرا ما يسألني الناس عن كيف يصلون إلى وجهتهم. وربما يتعجبون لماذا أنا بين هؤلاء الأجانب. أهز راسي وأقول: "نو هندي، انغليش اونلي"

قبل يومين ذهبنا إلى معبد أكشهردام. وهو واحد من المعابد الحديثة لكنه من أكثر المعابد أناقة ودقة في التمثيل والتصوير. كانت معنا زميلة جامبية من أفريقيا الساحل. وكان يوم جمعة وهي لا تتردد في كل جمعة أن ترتدي لباسها التقليدي وتعتمر عمامة معقودة للأعلى. سمراء طويلة نحيفة بعينين مقبلتين على الحياة ببهجة. المهم كانت الرحلة "زفة" في الذهاب والإياب.

في هذا المعبد يقام عرض في المساء. عرض موسيقي على إيقاع نافورة ماء بديعة. تظهر مخرجات الماء وكأنها هي مفاتيح الأورغ. بالطبع الموسيقى ناعمة صوفية بامتياز. روحانية قدرت على مزج القديم بالمعاصر. هناك الحان جيتار وجاز وطبل. وقبل العرض يبدأ توشيح بديع كموالد ابن علوان في جبل حبشي. هذه الطقوس جعلتني أتساءل في أصول الطقوس الديني الشعبية في اليمن وفي تعز وحضرموت وتهامة على وجه التحديد.

تسارع الإيقاعات يشعرك بعبثية الحياة ولانهائية المصائر. لكن العودة إلى الهدوء يضع قدمك على شرفة الإيمان.

الأضواء متعددة بين الأحمر والأزرق وهي تجسد النار والربيع والغابة والغموض وسر الحياة والتيه وطريق الهداية. لكن حركات الماء تتدافع كتدافع البشر وشرههم ثم تنساب وتعكس تعاوناً وتآلفاً بديعاً.

العرض درس روحي بسيط يحتاج إلى مشاهدة عشرات المرات حتى يستطيع المشاهد تفكيك شفراته الغامضة. ليس في الأمر إثارة. ليس فيها متعة عابرة. فقط مجموعة أسئلة. نادرا ما يطرب الجسد. لكنه يقشعر وينتفض، يثب من نافورات الماء المتصاعدة حد السماء والتي تهبط كمصير تاجر جشع أو صقر شره. يمنع التصوير بالطبع. دقائق معدودة يخرج منها المشاهدون معظمهم ممن قدموا للعبادة في حالة ذهول وابتسامات مبتسرة لأنها مخنوقة بقوة السؤال."

مصطفى الجبزي

18 يونيو 2012

غازي أباد

الثلاثاء، 12 يونيو 2012

خجل في عمامة سيخي

خجل في عمامة سيخي

غازي أباد – 12 يونيو 2012

في دلهي، تغفو المدينة مدثرة بالغبار وتنسحب الشمس كالحة باهتة اللون كشقاء الناس، تبدو وقت الغروب كأنها تائهة تبحث عن نزل غرب المدينة كقروي غار لحاجة في المدينة وضاعت عليه الدروب. الكل يركض متنكراً لنفسه، متنكراً للآخرين. في المترو يتنفس الناس بشرهِ عن قصد كأنهم لن يلحقوا نصيبهم من الهواء غداً. يتلاصقون بالأجساد في تمرين أولي (بروفة) للحشر. منسدل من خلف الظهيرة والأمس، يتمدد المساء ملتوياً حول رقاب المهرولين في طرق الحزن والبهجة كرداء امرأة هندية. وتنكمش النساء من الخجل واللهفة بسلاسة عمامة سيخي أصيل.

وحدهم أبناء الأغنياء يضحكون بفجور. أما الباقون، كطالب مشاغب يتهكم على الغباء المدرسي، تتلعثم ضحكاتهم وتتعثر بصدق الأسى فيخاتلون الضحكة بالكلام، وتكون بين البين كلقمة يابسة من غير ماء.

اطفال يلعبون الكريكيت بأقدام حافية. فاغرة تتنفس الحياة، تلهو أطراف أكمامهم أكثر من لهوهم باللعب. روائح غير طيبة تنبعث من كل الأطراف، أحدهم يتبول واقفا يلعن التراب الذي تتمدد عليه سكة حديد المترو برحابة بينما تضييق به الحياة بما رحبت فيستغيث بالصفيح.

في (المولات) يرفل التبجح ببطن جوفاء. تلتمع أعين النساء والأطفال نحو حلوى الشراء. كل شيء هنا أمريكي الطابع عدا ركن واحد من المبنى خاف المصمم ان يلعنه التاريخ فاستجار بتعويذة من نقش المعابد وتركها الحصن الحصين لحضارة يبتلعها السوق والشره.

الإجراءات الأمنية مشددة للغاية، يقف طابور طويل من البشر والآلات البشرية الصامتة ينظر دوره في التفتيش عند مدخل كل محطة. نفس آلات تفتيش المطار تتواجد على كل مدخل في المحطة.

في الخارج جندي يقف كتمثال مشدود الأكتاف مصلوب إلى بندقية خشبية بطلقة واحدة. كل شيء نحيف أو يميل إلى النحافة عدا البقر ونساء عجائز.

في متجر للحلويات الغربية بأسم السير جوهان. أقف أمام الباب الكهربائي بانتظار أن يُفتح يفاجئني فأر أسود متخم، راقصاً يركض إلى الخارج يعبر عن غضبة من تجاهل كهرباء الباب لكبريائه. لا أحدٌ يضايق أحدَ. فشعار المترو انه صديق البيئة وكذلك الناس أصدقاء للفئران. أظنه فأر مقدس يبتاع حلو القداس لهذا المساء.

السبت، 9 يونيو 2012

شيخان وذكرى



شيخان وذكرى

في كل مرة نسعى لترتيب لقاء شفاف، تحول أمطار استوائية، وتجرفنا الذكريات إلى حقول الشوك، وكأن اللغة تتعمد إسقاط حرف القاف من عربة الشوق والحنين وتلقي بنا في الشوك. إنها أرض ملغومة بالأسئلة التي تفجرت مساء أحد وبعثرت اشلاء ابتسامتنا يومها كجرح مفتوح يتعذر تضميده.

صمت طويل طوى من أعمارنا سنين. ضعنا كمقاتلين أوفياء في جبهة الخذلان والعمالة. ثم بعد سنين من الحرمان والتشرد، التقييا في مقهى ريفي بسيط جمعهما تسول إجباري على أنفة فضت بكارتها يوم نزال غير متكافئ وطعن في الخلف.

ألواح خشبية خشنة تجرح العابرين عليها بذكرياتها المؤلمة. وكراسي تتمايل إعياء وتحسرا على النزلاء.

يتفادى كل منهما مصادفة النظر في وجهه المتغضن، في رفيقه القديم. يتنكر لأزيائه وتعاريج الشماتة الصامتة على خد الهجر والضياع. أنه خوف البوح بالحقيقة.


الجمعة، 8 يونيو 2012

لذة الخمول

لذة الخمول

9 يونيو 2012

غازي أباد- الهند

مساء الأمس تصفحت بريدي الاليكتروني فوجدت رسالة من شاب سويدي تعرفت عليه حين كنت إلى جواره في الرحلة من الدوحة إلى دلهي. أثنى فيها على الرفقة في الرحلة وتمنى أن نلتقي في القريب العاجل.

وبعدها بقليل تلقيت رسالة أخرى منه يخبرني بأن جدول أعماله قد تغيّر وأنه سيرجع إلى ستوكهولم ولن يكون لقاءنا قبل نهاية الشهر في أقل تقدير.

بحدود ثلاث ساعات قضيتها في هذه الرحلة على طائرة ممتدة كسمك القادوس مكتضة بالركاب من كل صنف هندي بالطبع، وأنا أتحدث إلى شخص سيذهب في مهمة دراسية في الهند بعثه جامعته لمدة فصل دراسي واحد في مجال التنمية وقد أبدى اهتماماً ومعرفة واسعة بالقضايا السياسية والحراك الاجتماعي في كل من القرن الأفريقي والجزيرة العربية والشرق الأوسط بصفة عامة. جال بنا الحديث ألى طرق باب النظام المالي الإسلامي وجدواه وحقيقة النظرية الاقتصادية الإسلامية.

كل هذا كان بالانجليزية، تصوروا. لا ادري كيف كان يفهمني أم أنها ضرورات الرفقة وإكراهات الكرسي المجاور.

اعرف نفسي جيدا واعرف أن انجليزيتي تعاني من حالة تشوه عميق وقد أصيبت بإعاهة دائمة وضمور حقيقي وتحتاج إلى تدخل علاجي عاجل وإلا ما جئت إلى الهند أصلاً.

صُدِمت عندما شاهدت في جواز سفره انه من مواليد 89 سيما وكان قد طرح علي أسئلة جوهرية من قبيل مستوى علاقة اليمن بإثيوبيا التي زارها الصيف الماضي ويعرف عنها الكثير والكثير خصوصا مستوى تقدم الديقراطية والتنمية في هذا البلد العالم ثالثي أو المستقبل السياسي لليمن بعد خروج صالح.

قبيل مغادرة المطار عرض عليّ أن يقلني بالسيارة التي جاءت لأجله هي بيك أب، فشكرته وقلت له إن المعهد الذي سأدرس فيه سيجعل من ينتظرني.

لم أجد أحداً من المعهد وكل الأوراق التي في حوزتي لا تحمل عنوانا. لكني - والله سريع الحساب - وجدت الصديق عبد الرقيب أو عبالرقيب كما يرد على لسان هاني (الذي لم يتخلف عن تقديم الواجب وأجاد).

لقائي بهذا الصديق السويدي ذكرني بقصة طريفة. فقد كنت في أحد الايام من العام 2008 قد جلبت معي صديق يمني (دودة كتب ومحب للقراءة) إلى حفلة توديع ولم يكن يتحدث سوى العربية وفي الحفلة أحباش وفرنسيون. صديقنا كان يمرح ويسرح ويضحك من أعماقه معهم. أكل وشرب وغنى ورقص وعند منتصف الليل قال لي: "تصدّق! لا ادري أي لغة تشكلت بيننا هذا المساء. لقد تحدث بالفرنسية والحبشية وشعرت بتناغم كبير مع هؤلاء البشر". قالها وزفر مرتين.

أظنني قرأت في (زوربا اليوناني) قوله انه كان إذا تعسر عليه التفاهم بالكلام قام يرقص.

***

وصلت مباشرة من المطار ولم انم سوى ساعتين ثم إلى الفصل الدراسي مباشرة.

مضى اليوم الأول وكنت قد خرجت لاستطلاع المكان والسير حوله.

في الهند كل خطوة تعلمك درسا في الكفاح من اجل لقمة العيش. وتشعر ان هذه البلاد لن تتمكن من الالتزام بقوانين عمالة الأطفال مثلاً. وتشعر ان في شارع هايل لكما استدرت من شارع لأخر. لكن الأشجار تغريك بأن تتصور أنك في نيل القاهرة وشوارعها المحتجبة بالخضرة والفوضى.

أجساد نحيلة صلبة وسمرة الوجوه هي من قداسة الإنسان الأول.

شعرت بوحشة مبدئية. فللهند اتجاهها الخاص في كل شيء ابتدأ من قيادة السيارة. "السكان يمين، أين شتسرح؟" هكذا تلكلّم عبالرقيب.

الهنود لا يتحدثون بصوت مرتفع. بل ان الحديث في أحد محطات الميترو يعرضّ صاحبه لغرامة مالية.

لكنهم عندما يفتحون أفواههم للكلام يتدفق الحديث (بلا بريك)، بلا فواصل ولا علامات تنقيط. يقولون جملتهم وكأنها الجملة الأخيرة. وتنتفض لها أجسادهم وإلا ما اهتزت رؤوسهم في الحديث.

***

ذهبت خطوات بعيدة عصر اليوم ابحث عن بعض أغراض. شارع بجانبين، أحدهما في منتهى النظافة والآخر في غاية الـ...

عائلة تسكن الشارع وتعمل فيه. احدهم يحلق لزبون في الشارع ويتفنن ويتحرفن في الحلاقة بينما الزبون ماطا شاربه الممسد يجلس باسترخاء تام على الكرسي. عائلة تناثر أفرادها لكواية الملابس بكاوية حجرية أو حديد تعمل بالفحم. نساء يعلمن في البناء. المدهش أن كل مبنى من المباني الكبيرة قيد الإنشاء محاط بمدينة صفيح هي في الأصل للعاملين والعاملات الذين يتخذون منها مقر عمل وإقامة إلى أن ينتهي العمل. لا أظنه سينتهي بالنسبة لمشرد وجد عمل وفرصة سكن، أو هكذا يتمنون. في الهند عندما يذهب أحدهم للعمل في الإنشاءات فإنه يحضر كامل عائلته وكل واحد يضطلع بدور ما؛ رجال، نساء، أطفال...

في الشارع تضطجع الكلاب بطمأنينة منقطعة النظير. الجو حار والكلب مستلقٍ على أرض موحلة يتلمس الرطوبة والبرد. حسبته كلب نافق مرمي على قارعة الطريقة مغروس في الطين واقتربت منه فإذا به يحيني بأن فتح عينيه ولم يكترث لوقوفي على رأسه. بل لم يرفع رأسه بالمرة. إنها لذة الخمول في الصيف أو ضجر الحياة!؟.

وللرفاق الأفارقة حديث شائق...

الخميس، 7 يونيو 2012

موت الصورة

موت الصورة
7 يونيو 2012 - غازي اباد -الهند


هذه هي المرة الأولى التي أسافر فيها بعيداً عن الديار ولم أحمل كاميرا. اهوى أخذ الصور لكل شيء. نعم، كل شيء، كل ما تقع عليه عيني.

لكني اليوم اشعر بمرض ما حال دون ممارسة هذه الهواية العزيزة على نفسي. وقد صادف ان شاهدت أشياء كثيرة منذ يومين. لكن لم تقودني الرغبة إلى الاندهاش بها.
وهذا مرض ثانٍ.

أنظر الى الاشياء من حولي واتفرس ملامح الناس، تجول في خاطري أفكار كثيرة. ولا يظهر منها شيء.

ليست قلة الاهتمام هي الداء. ولكن عدم القدرة على رد فعل؛ بسيط، ربما غوغائي، ربما ساخر، ربما متأفف، ربما متألم. لا شيء من هذه الاصناف.

فقط مطبق على شفتي كاني أخشى البوح.

وفي المساء اكتشف ان لا مفاجأة.

المفاجأة الوحيدة هي احساسي بتلك الداءات تنخر في الأعماق وتجردني مني. تسلخ الأنا التي عرفتها فيّ. أنا الفضول والدهشة كفلاح يدخل السوق الاسبوعي ويلتقي جاره بلهفة وحنين كأنه لم يشاهده منذ أمد. كطفل في العيادة جاء بصحبة أمه وأفلت من يد أمه مسافرا في العيون المنتظرة؟


الأربعاء، 6 يونيو 2012

في مديح الآلة

في مديح الآلة
(5 - 6 يونيو 2012 )
كان موعد الرحلة الثالثة والنصف عصرا لتنطلق الطائرة من صنعاء إلى الدوحة ثم في التاسعة والنصف ليلا من الدوحة إلى دهلي (يقال إن اسمها عند العرب كان كذلك ثم تحولت إلى دلهي).
لكن سوء الأحوال الجوية وموجة الغبار حالة دون ذلك فتأخرت الرحلة إلى موعد غير أكيد.
لذا، عليك يا مصطفى ان ترجع بسرعة الى عند عبد الرحمن تأخذ منه المؤنة وتفر إلى بيت وليد.
في الساعة السادة والنصف تتصل بي زميلة الدراسة وضابطة طيران القطرية بأن موعد الرحلة سيكون في التاسعة والنصف ليلاً.
في المطار أطرح عليها، بوجه مكسور لأكثر من سبب: وماذا عن رحلتي الثانية الى دلهي؟
قالت: سيكون وصولك بعد غد الساعة الثالثة وخمسة عشرين دقيقة صباحا. "يعني عتجلس يوم كامل في التوحة".
"أصحابنا" الذين يقولون إن بند بدل السفر موقف تماماً على الموظفين من أمثالي يتعاملون معنا وكأنهم لم يسافروا أبداً. صحيح، تكفلت السفارة الهندية بالتذكرة لكنها لم تتنبه لطارئ كهذا وهي لم تعرف أني سأقعد ليلة ويوم في الدوحة وبما أني يمني الجنسية فلن أتمكن من الدخول إلى فندق، وإن كان كذلك. فمن أين لي مبلغ الدخول إلى فندق؟ ثم ماذا؟ هل سأقعد في المطار 24 ساعة كالمبعدين الذين ترفض المدن ابتلاعهم وتلفظهم المطارات واحد تلو الآخر.
***
الرحلة هادئة. لا يوجد ركاب كثر، وجبه خفيفة في المساء إلى جوار عربي (عربي بالمعني الانثروبولوجي والثقافي الغربي، يلبس ثوباً ابيض وعقال وشفاتين متدليتين كشفاتي البعير) لم يكف عن دعك وجهه المتغضن كفصيلة كلاب البيتبول. لم أتحدث إليه، كنت مرهقاً وممتعضا من أشياء كثيرة منها قدرنا على هذه الأرض. ربما فكرت كثيرا في أن الطبيعة ما تزال أقوى من البشر.
من نافذة الطائرة نظرت إلى الأسفل بين حين وآخر وجدتنا نحلق فوق حدائق نور باهرة بعد رحلة من ظلام الجبال والصحراء. بالمناسبة الصحراء ليس مظلمة. إبراهيم الكوني يقول إنها من طهرها لفظت الإنسان غير الطاهر ولم تأويه.
***
قبيل أن نخرج من الطائرة التفت إلي (العربي) وقال لي: الحمد لله على السلامة. بادلته التهنئة وسألته : يبدو أن الغبار هنا أخف. قال: نعم كبل يومين كان أكثر. بس الآن أخف. خلاص راح على اليمن. وابتسم.
بالفعل الخليج يقدم لليمن أشياء كثيرا منها الغبار أيضاً.
قلت له تكررت موجة الغبار هذا العام. فقال لي: بالفعل ما كنا نعرف الغبار من كبل. خلاص الدنيا تغيرت وما في أمطار والتصحر زاد.
شردت عنه لحظة أفكر في المخاطر الاقتصادية والبيئية والصحية لمثل هذا الوضع الذي يزداد تعقيدا. حركة النقل تسوء. أطفالي (وكأنهم صرّة الكون) منذ أشهر يعانون من التهابات حادة في الصدر تمنع عليهم رقادهم.إلي أين؟؟؟
نهضت لأحضر حقيبتي الصغيرة فرأيت صديق فرنسي يعمل في اليمن. تظاهر بنسياني تماماً. أفهم لماذا. لكني واصلت معه الحديث بالفرنسية.
أظن أن الحديث بلغات أجنبية يجعل الناس أكثر شجاعة. هناك كاتب جزائري كتبَ: أكتب بالعربية، وأصرخ بالفرنسية.
لا تنكروا حقيقة ان الكثيرين ما ان يريدون الحديث عن موضوع حساس وملفت للنظر (من قبيل الجنس مثلاً) إلا ويلجأون إلى استخدام الكلمة الانجليزية.
تشعبنا في مواضيع كثيرة فالرجل "لطيف" وكنت اعرف هذا من قبل. وربما نسيانه لي كان من حركات "اللطفاء" أمثاله.
ألا تلاحظون في حقيقة الأمر؟ يوجد "لطفاء" كثر يقدمون على اليمن من الأوروبيين والأمريكان" خصوصا في السلك الدبلوماسي.
هذا الفرنسي يحب الدوحة ولديه فيها أصدقاء كثر أكثر من حبه لدبي رغم سفره إليها مراراً. كانت أهم جملة لهذا الصديق أنه يجد دبي مدينة بلا روح. قلت له الأصدقاء هم روح الأماكن. حديثه ذكرني بصديق امتدح شرم الشيخ وكأنها مزار للحجاج.
نعم، كل يحج إلى قِبلته.
***
مطار الدوحة واسع جدا. لم أتعرف على ملامحه في الليل. لكني شعرت أنه كفيل بابتلاع نصف قطر.
انتظرت طويلاً في صفوف الركاب العابرين أو ركاب الترانزيت. بما أني سأبقى في الدوحة اكثر من 20 ساعة كان لا بد من مكان للنوم والأكل والشرب. طلبت ان يبعثوا بي إلى فندق. فرفض الموظف الفلبيني الشكل واللكنة.
سألته: أين مشرفك؟ فقال: هو ذاك.
ذهبت إليه. أسمر قصير شبه أصلع بشارب اسود نافر منضبط الاصطفاف كجوقة. هندي بالطبع.
سيدي...
أوكيه، ستذهب إلى الفندق ولكن انتظر، اجلس!

***
جلست من الساعة العاشرة ليلاً حتى الساعة الثالثة والنصف بعد منتصف الليل. تأخر الرحلة القادمة من صنعاء وتفويتي الرحلة إلى دلهي يعطني الحق بالذهاب إلى نزل. فأنا اعرف قواعد العبور وسبق لي وان عملت بهذه المهنة لأكثر من عام. أحببتها لانها عفوية وسريعة وليس فيها ملل. لأنك في اليوم الواحد تقابل آلاف الصور. لكنها مؤلمة عندما تصطدم باللوائح وتجبر نفسك على إزاحة مشاعرك الإنسانية. في المطار لا أحد يحب أحدا أو يكره أحدا. كلهم عابرون في وطن بلا عنوان. حتى عمّال المطارات لا يشعرون بالانتماء للمطار. فقط ينتمون لرواتبهم وفرص العيش والراكب الذي قد يدفع بقشيش. بالطبع هناك تميز بين راكب وآخر. مثلا الحسنوات والمتغنجات يحصلن على معاملة أفضل من الذكور بينما الرجال الوسيمين وذوي الملابس الفاخرة يلقون معاملة حسنة من الإناث وهكذا.
المهم القاعدة تقول إن لي الحق بالذهاب إلى فندق. لكن جوازي اليمني يحول دون ذلك. فقط لأني يمني.
سيدتي جوازي دبلوماسي وأنا ذاهب إلى منطقة أخرى ولست هنا للـ..
اعرف لكن هذه هي اللائحة.
في كل الأحوال حتى لو سُمِحَ لي بالدخول إلى فندق فمن أين سأدفع رسوم الفندق؟
الساعات التي قضيتها في المطار كانت لغرض مراجعة مصلحة الهجرة التي قد تسمح بدخولي إلى فندق فيما لو اقتنعت بجوازي الأحمر الداكن والتأشيرات التي عليه خصوصا إقامتي في أوروبا.
تصوروا مجرد الحصول على تأشيرة إلى أوروبا يمنحك امتياز. كل صفاتك الأخرى لا معنى لها. أوروبا أولاً.
لدينا مثل يمني جميل: حُبَة (قُبلة) من المليح ولا .... من الخيبة!
***
في الساعة الثالثة والنصف فجراً جاءت الموافقة بدخولي. لأني سبق وحصلت على تأشيرات دخول إلى أوروبا وأقمت فيها. أنا ما زلت يمني وجوازي أحمر.. ولكن تلك مبررات كافية للسماح لي.
وصلت إلى الفندق الساعة الرابعة والربع فجراً. من نافذة الغرفة أتطلع إلى حقل عمل وأصوات الآلآت يتكرر. نقّار الصخور يعوي ويدق في الأرض كساعة سويسرية.
استيقظت في الظهر وهرعت إلى النافذة لأتأكد من مشهد الليل. بالفعل أنا في مشهد من برنامج (مشاريع عملاقة).
***
في المطار أجانب كثر أقصد العاملين. العرب يوشكون على الاختفاء، العرب كل العرب. بدأ بعض الهنود يتحول إلى عرب بعض الشيء، أم هناك تقارب في الأشكال ومورفولوجيا الجسد بيننا. فقط مجموعة مغاربة يعملون في أكثر من مجال. يبدو ان مصر توقفت عن إرسال عمالة إلى الخليج. المغاربة أكثر حضورا. أجسامهم رشيقة، يتحدثون أكثر من لغة. وجوه جادة وبملامح قاسية في نفس الوقت.
بيتر، مصري واحد فقط التقيت. شاب مرح بنظرات واسعة وكأنه طبيب. هو بالفعل طبيب في ابتسامته بالنسبة للمسافرين الذين فاتتهم رحلتهم. من يمكنه مواساة شخص فاتته الرحلة وكل ما فيها من أحلام ومواعيد وتطلعات.
لم ننته بعد!

الاثنين، 4 يونيو 2012

اللجنة الخاصة


اللجنة الخاصة
القائمة التي صدرت اليوم عن صحيفة الشارع، وكانت قبلها قد اشارت بعض المواقع الاليكترونية هي تبشر بنشر هذه القائمة الى ان اجمالي المبالغ التي تتلقاها شخصيات مدنية وعسكرية يمنية تبلغ 145 مليون ريال سعودي شهريا.
وحاصل جمع هذه المبالغ على امتداد السنة يكون 1740 مليون ريال سعودي اي ما يقارب 464 مليون دولار سنوياً. بمعنى قرابة نصف مليار دولار.
 
بالنسبة لي هذا الرقم يفسر مستوى المعيشة ويمثل واحدة من مؤشرات الاقتصاد الخفي. ربما يليق بنا ان نطلق عليه الاقتصاد القذر ضمن تعريفات الاقتصاد الخفي لانه يمس قضية انتهاك للسيادة الوطنية.
لماذا نستغرب اليوم ان هناك مبالغ تسلمها السعودية ليمنيين في الدولة وضمن التركيبة الاجتماعية ولم نساءل من قبل كيف يسير الاقتصاد اليمني وكيف تدير الدولة الشؤون الاقتصادي لهذا البلد.
هل يعقل ان ما يزيد على 20مليون مواطن يتم تلبية احتياجاتهم بميزانية تتراوح بين 5 الى 7 مليار دولار سنويا بينما مظاهر الثراء لم تتوقف يوما واحدا عن الاستفزاز؟
هل تعلمون ان البلد كان يحوي قبل عامين على اكثر من 120 سيارة بورش. وهو سقف لم تكن تتوقعه الشركة المصنعة نظرا للقيمة الباهظة للسيارة وتصنيف القدرة الشرائية لليمنيين.
بعيداً عن الآثار القانونية لمثل هذا الخبر، وعن التهافت في التخوين والتبرءة. دعونا نتساءل عن الآثار الاجتماعية والاقتصادية لمبالغ تدخل البلاد بهذه الطريقة.
لم تتطرق الصحيفة إلى مواضيع اخرى ذات صلة من قبيل منذ متى تسري هذه المبالغ حتى نتمكن من استنتاج التراكم الذي حدث وحجم نمو هذا الاقتصاد المنفلت من اي رقابة او متابعة او رصد.
علينا ان نتساءل عن عائدات اثمار هذا المبلغ ودوره في توزيع الثروة واعادة توزيع الثروة.
وكيف ان القيادات العسكرية والمشائخ كونوا ثروة طفيلية تتجاوز ثروة التجار. بالتالي ما اسهام هذه المبالغ في القضاء على الطبقة الوسطى في المجتمع، على اعرافها التجارية، على سلوكها المديني، على الاسهام في تحضير المجتمع، على الاعلاء من قيم العمل والجهد والمثابرة.
هذه الاسئلة ستقودنا حتما الى التساؤل عن دور هذه المبالغ في غرس ثقافة فساد متنامية.

الأحد، 3 يونيو 2012

النضال الرخو

النضال الرخو
----------------
لقد عبرنا عن غضبنا مرارا على صفحات الفيس بوك وعلى صفحات اخرى غير هذه. وأياً كانت النتيجة.   
لا تنسوا ان الفيس البوك يعمل على خلق وعي (نسبي) تجاه القضايا وان ادارة الحياة لا تتم في كل مرة بروح ثورية تنشد الصفاء وتبث روح الاستشهاد.
لا يزال يوجد هامش من الشد والجذب كحوار ايجابي دون اكراه اي من الاطراف على استخدام اعتى اوراقه لاننا سنفسد حياتنا ونحوّطها باسلاك شائكة لا تخدم حاجتنا الى التواصل  وتنوعاته من التجريب والتمادي والاعتراض والاحتجاج وربما رد فعل غاضب وغير متوقع.
لا بأس ان نمرن الناس على سلوكيات حضارية تغرس فيهم قيم التفاوض والعرض والطلب والاصرار على الحق والتمسك بالقانون لأن راهننا ما يزال يفتح ابواباً واسعة لتوظيف ادوات بالية من قبيل الوساطة واحيانا وسائل ضغط وعنف ايضاً. 
الراغبون في أنمذجة الفعل ورد الفعل يعانون من قصور في الحكم وشمولية في الرؤية ربما نتيجة انفصالهم عن الامكانيات الحقيقية المتاحة لكل الاطراف. 
فمثلا الاصرار على تجاهل لوائح القانون لا يعني سوى حالة غياب عن المشهد الحالي المتغير وانفصال عن متابعة مجرياته والاصرار على تجريب المجرب. 
بالمقابل الذين يطمحون برد فعل عارم تجاه كل تجاوز يبالغون في تقدير الموقف ويتسرعون في نيل النتائج. 
ربما قبح التجاوزات يستدعي انفجاراً كونياً. لكن القفز في درجات سلم المتاح من الادوات والتسرع في استعمال ادوات قهرية يعني الهروب من تكريس ثقافة احتجاج صحية، تساعد بالنهوض في وعي المتجاوزين.  
لا تنسوا ايضا اننا نمارس فعلا اخلاقيا وقيميا يمحو ذهنية وينمي ذهنية اخرى.
 كل الخيارات واردة. لكن اذا لم تقم خياراتنا الاحتجاجية على تعميق القناعة بضرورة القضاء على الفساد فهذا يعني انها موجة عابرة من نفس قوة فعل التجاوز او المخالفة او التعسف. 
على عاتقنا واجب اكبر من مجرد نيل الحقوق ونشر العدالة وتكافؤ الفرص.
نحن جيل جديد احسن تشخيص المشكلة ووجد انها في الاصل شرور النفس الانسانية كبذرة كامنة، لكنها في حالتنا انفلات من العقد الاخلاقي وتشويه لقيم مجتمع باكمله عبر ماكينة فساد منظمة ومتشعبة أو فول ابشن.  
نحن نحاول ايجاد معجزة وهي اعادة تشكيل ذهنية فاسدة لجيل متكامل ما يزال يمسك بمفاصل الإفساد. 
يجب اولا ان نشعره بالهزيمة الاخلاقية ثم نروضه ليعود الى جادة النبل. 
من منكم لا يغريه هذا النجاح. 
لا نستنفد ادواتنا. 
خياراتنا واسعة ومتدرجة.
القسر لن يكون سوى انتحار جماعي. لذا لن نجعل انفسنا في أمام هذا الخيار مبكراً.  

الحب بين علم الاعصاب والعلوم الإنسانية

الحب بين علم الاعصاب والعلوم الإنسانية (مقال مترجم من الفرنسية) ترجمة مصطفى ناجي الجبزي افتتح في شهر أكتوبر من العام المنصرم معرض استث...