الخميس، 6 مارس 2014

علبة الهندسة


يحدثني إلياس بشغف كبير عن زميلته التي ترسم دائرة متقنة بشي لم يعرف اسمه.
أسهب قبل النوم في تقديم شرح عملي وهو يلوح بيديه في الهواء كما لو كان يقبض بيده اليسرى على الورقة وبيده اليمني يمسك برأس فرجار ويدوره عكس اتجاه عقارب الساعة.
بالمناسبة الساعات الرقمية ستجعلنا بعد فترة نتصور ان حركة عقارب الساعة أشبه بومضة يتغير على اثرها رقم في خانتين.
أعادني حديث صغيري الكبير الياس الى سنوات المرحلة الابتدائية حيث كنا في الصف الخامس نبتهج بأننا في عام "الهندسة". تلك الحقيبة المعدنية الصغيرة المحتوية على مسطرة ومثلث وزاوية وفرجار.
علبة بلون ذهبي داكن من الداخل عند إقفالها تصدر صوتا مدغدغا وتمتد على ظهرها خارطة زرقاء للعالم العربي باللون الأصفر الفاتح.
هل ما تزال حدود ذلك العالم العربي زرقاء دافئة.
كنا نقبض على "الهندسة" بيقين مؤمن اننا نمسك زمام العالم بأسره.
3 مارس 2014 

امنياتي لاخر العام 2013

ما زلت في العام ٢٠١٣
اليوم الاخير حمل لي أخبارا طيبة على الصعيد الشخصي.
ثمة أمنية بسيطة وهي ان يأتي العام القادم وبعض أصدقائي قد استبدلوا صور الـ بروفايل حقهم في الفيس والمشفرين والمشفرات أفصحوا عن أنفسهم.
الهي يأتي العام 2014 وقد قرر هذا العالم ان يكون اكثر شفافية وقررن البنات في بلادي رفع اللثام عن وجوههن.
الهي يتم تقنين بناء المساجد في بلادي وتأطير خطباء الجمعة وتحديث منهج اللغة العربية.
الهي تتعافى الصحافة في اليمن وتكون حرفية.
الهي اجعل عام ٢٠١٤ عاما يتم فيه كسر احتكار سوق الدواء في اليمن بعد توقيع أنفاق الانضمام الى منظمة التجارة.
الهي اجعل صديقي جمال جبران يلاقي عبير تلك التي لا نعرفها.
وان يتمكن مشروع مياه الجبزية من حفر بئر جديد وتجد أمي الماء مرة كل أسبوع.
الهي لتهد وزارتي ووكيلها المالي في ان يفرج عن بدل سفر لي عن دورة تدريبية منذ العام ٢٠١٢.
الهي ليكن العام القادم جلابا لتشكيلة وزارية جديدة تختفي منها بعض صور الوزراء الذين مللناهم ولم يملونا.

31 ديسمبر 2013

الحمد لله على نعمة الاسلام


فرانسوا، بايع الخضروات في السوق الأسبوعي الذي يقام في الشارع، شاب ورش عليه وشم في الرقبة وخرص صغير في الأذن. يحب عمله ويحب زبائنه.
قلت له: صباح الخير سيدي! الاسبوع الماضي شريت منك كيسا من التين المجفف حبتي سفرجل وفقدتهما في مكان ما.
بابتسامة وديعة رد علي: بالفعل سيدي، غادرت وتركتهما على الطاولة.
وناولني كيسا جديدا وحبتي سفرجل طازجتين.

يبدو لي فرانسوا كمعظم الفرنسيين، يحب عمله ويحب الناس ولا ينشغل كثيرا بالرب او الكنيسة وان كان من ثقافة مسيحية إجمالا.
هل احكي ما لقيت في الأردن من ذوي المسبحة. او ما لقيت في مصر من سائق التاكسي ذي الزبيبة في الرأس.

والحمد لله على نعمة الاسلام.

8 ديسمبر 2013

معارضة الخارج

صديقة اجنبية عملت في اكثر من دولة عربية قالت لي:
"اصنعوا مستقبلكم بأنفسكم، لا تجلبوا معارضة الخارج البالية. فهي لا تدري شيءا والعراق خير مثال. وان عادت ستعود لتعيش في جيتوهات مغلقة ومدن خضراء وبمعايير ما كانت عليه ومن أموالكم واعماركم".
ذكرني حديثها عما ذكره لي صحفي فرنسي يعمل في راديو فرنسا الدولي كان قد أمضى سنوات من العمل في غزة والأراضي المحتلة. اذ ذكر لي ان السلطة الفلسطينية كانت في معظمها تعيش في الخارج وعادت فحصنت نفسها واغتربت عن الناس ونأت بنفسها عن همومهم ومشاكلهم. بل انها كانت لا تتخاطب بلغتهم حتى افتقد المواطن الفلسطيني معاملة السلطات الإسرائيلية.
كان الله في عون إخوتنا في الحراك الجنوبي.

29 نوفمبر 2013

ما يزال هناك من يقسم بحب الوطن



عربيّة تركية. تعمل بائعة لسلع غذائية. تقف الى جوار نافذة الدفع وتحمل بين ذراعيها طفلا لا يتعدى عامه الثاني.
تداعبه وتحثه ع السير.
تٌسمعه أهازيج الخطوات الاولى وأماني الجدات.
كانوا ثلاثة وكان الطفل رابعهم. التركية الوجه عربية اللسان. وشاب مصري وسيرلانكي اسمر وديع. كلٌ يلتقفه من جهته كلما خطا الطفل خطوتين وترنح.
"ميشيل! امش امش!
بحب الله وبحب الوطن." ثم تقبله في خده وتحتضنه بقلب رؤم.
اي وطن هذا الذي يلاحقنا حتى اخر المسافات وأبعدها.


15 نوفمبر 2013

كيف ابكيك يا احمد؟


كيف ابكيك يا احمد؟
ليست لنا نهاية للفاجعة في هذا الوطن المنكوب. ولن يمر اكتوبر دون ألم لا شفاء منه.
اخر الاخبار انك توفيت يا صديقي. انت الذي كنت اخف من الريشة وارق من ملاك.
السماء تتربص بناء وتأخذ اجمل من فينا. ليست عادلة لانها لم تاخذ اولئك الجاثمين على اعمارنا ومستقبلنا لكنها جريئة عليك انت . هل لأنك مجرد من كل عصبية وقوة سوى انسانيتك وقلبك الجميل؟

اي صاعقة هذه وانا اسمع خبر وفاتك بينما لم يخطر على بالي ان الموت قادر على ان يداهم جمال كقلبك.

يصعد احمد الى جوار ربه ليجلس بين القديسين بعد ان قضى في حادث سيارة مروع بين القرية وتعز هو وعبد الله عبد الولي وهو ذاهب الى خطبة حبيبته التي كلمني عنها كثيرا.

يموت احمد وهو مصر على ان يكون وفيا في زمن لا مجال للاوفياء فيه.
يموت احمد قبل ان يصل الى حبيبته.
كلمني احمد عنها كثيرا وكنت ارقب خطوات اكتمال الحلم.
كنت سافرح لك بزواج يليق بقصة حب من الزمن الجميل. قصة حب لا تتسع لها هذه البلاد التي طاردتك حتى لا تحصل على قبلة هانئة ككل عاشق في بلاد الله وتنعم باسرة حرمت منها كثيرا بسبب جفاء الأهل والصحب.
طاردتك لانك حر كالعصفور وعصفور اكثر من الحرية عينها.

يا صديقي لن تجدي هذه الكلمات التي وددت لو انك هنا لتسمعها بنفسك.
ما زلت احتفظ لك باحلام كبيرة ووعود ما اتسع الوقت لنحققها معا.
انت يا احمد. نحيل كساق القمح ومبارك كسنبلته. باسم او ضجر لا يمكن ان تكون الا احمد الذي لا نعرف كيف نعرب له عن حبنا.

كضحية جديدة لهذا الوطن الذي لا قيمة فيه لحياة الفرد يموت احمد سعيد الذي مشى من تعز الى صنعاء على قدميه وبساقيه النحيلتين من اجل كرامة وحياة شعب لا يستحقهما بجدارة.
لقد كنت احد افراد عائلتي. وزوجتي ام إلياس ما فتئت تعاملك كانك ابنها الاكبر وقست عليك باللوم في كل مرة كما تفعل تماما مع الياس. قلت لها هذه الليلة: توفي احمد سعيد. فشهقت : مَن؟ احمد ابني؟

احمد. يا شفيعي عند الملك الاعلى اذ لا اعول على شفيع غيرك لاني لا اضمن ان احدهم جدير بالجنة كما انت. لماذا رحلت وتركتنا في عراء؟ عراء من الصدق والنبل.
اهي انانية مني ان اطرح عليك سؤال كهذا لاني اعلم جيدا انك ستنعم بجنة خلد ونعم قرار بينما نحن ستعذبنا ايامنا القادمة وسننال لعنة الخذلان؟

لا ادري كيف اقص عليك اني شاطرتك احلامك الكبيرة بجيبوتي وما وراءها. او السفر الى كندا ولقاء الله هناك؟
نبرتك الان تسوطني في مؤخرة راسي وصوتك عطش بلا رواء.

احمد! في خزانة الملابس تي شيرت جديد كنت انتظر لقاءك واتحين العودة الى صنعاء لاهديه لك يا صديقي ولم اكن اعلم ان الموت اقرب اليك مني.
غبني على حبيبتك التي رايتها في صنعاء وانتما تبحثان عن زواية تتسع لنبل احلامكم. رايت في عينيها صدق وبراءة تليق بانسانك.

كيف عساها تستقبل خبر وفاتك وهي التي انتظرتك طويلا وقد صدقت؟ كانت تنتظر لتصل اليها كفارس احلام بحصان ابيض بينما ستصل الى السماء بكفن ابيض هذا لو تيسر لك الحصول على كفن.

ستنعيك الجبزية ايام وستنساك بعدها لكن من لأمك في حزنها وفاجعتها بك؟
لا استطيع ان المس لوحة المفاتيح لطالما اغرورقت عيني بالدموع بعد ان ضنت علي بها طويلا. ساذهب لاضع الاولاد ع الفراش واغلق ورائي باب المطبح وابكيك ملئ سماء باريس هذا المساء.
ومع هذا لا عزاء. اذ يغيب علينا الموت اجمل ما انجبت الجبزية. احمد سعيد وعبد الله عبد الولي.
31 اكتوبر 2013 

باريس

23 اكتوبر 2013 

تجعلك باريس في قلب الحدث وتشعرك ان العالم بين يديك.
لكن صحافتها وإعلامها عموما انتقائي ان صرف لأسباب تاريخية وثقافية سيما والاهتمامات تتركز على العالم الفرانكفوني واليمن اخر المحطات التي يمكن ان يصل اليها قطار الاهتمام الفرنسي وان كان اليمن مخزنا مترعا.
لكن هذا لن يكون الألم الوحيد. فعليك ان تتذكر انك قادم من نافذة صغيرة هي اليمن وهذا لا يجعلك قادرا على تحمل كل هذا النور.
ثم أنوار اخرى هي البيئة الثقافية المعطاءة في البلد رغم ان اليد قصيرة واشتهاءات النفس تصل عنان السماء ولا كابح لها الا خلو الجيب.
لكن غلاء المعيشة يجعلك أعمى ومكبل يكل الإعاقات خصوصا عندما تلبس حلة دبلوماسي مفلس وتصر الى الاحتفاظ بقليل من عزة النفس ونظافة البطن.
على ان هذا المناخ المستوحش رغم كل نعومته لا يخلو من نعيم. فالاصدقاء يصبغون على نهاراتك خفة ظل ومسحة أمل. وابتسامة يصممها بوتان بمهارة.
كل شي هنا يضفى على المشهد لمسة جمالية ووئام فسيح. لا شي يخدش هذه اللوحة سوى لثام اسود مستفز او حجاب استعراضي على راس سنغالية.
عربات الميترو تتجدد والمقصورات الحديثة كأنها صالة لعرض أزياء. مع هذا ستجد احدهم يكشر اذا جال بنظره في الوجوه المختلطة. وحدها وجوه الصين تمضي بصمت وتنخر لب الاقتصاد.

رواية الرهينة -ترجمة جديدة


17 اكتوبر 2013 

في معهد العالم العربي كانت هناك فعالية حول ترجمة رواية الرهينة التي ترجمتها ندى غصن وهي الترجمة الثانية لهذه الرواية الى الفرنسية. تزامنت الفعالية مع فعالية اخرى للكاتب المصري علاء الأسواني وقد عارضهاجماعه من الاخوان المسلمين واضطرت الشرطةالفرنسية الى ان تتخذ بعض الإجراءات الأمنية وأوشكت ان أكون برفقة صديقي عارف الحيدري ضحية لهذه الإجراءات.تحدثت المترجمة عن تجربتها هذه وخصوصيتها وخياراتها وكان ذلك بحضور ممثل عن دار النشر السويسرية وجمع اخر من المهتمين بالرواية والترجمة وبعض اصدقاء المترجمة التي قضت بعض سنوات في اليمن اثمرت باهتمامها بالادب اليمني.
وقد تطرقت المترجة الى السياق الاجتماعي الذي انبثقت منه الرواية وطريقة ترجمتها التي لم تتبنى الصيغة الأدبية المحضة بقدر حرصها على عكس الأبعاد الاجتماعية والسياسية التي تبنتها الرواية والاشتغال على البعد الأنثروبولوجي دون الالتصاق بالترجمة السابقة ودون الحرص على فرنسة النص وصياغته في قوالب فرنسية جاهزة.
على هامش الفعالية التقيت مدير معهد العالم العربي السيد جاك لانغ وزير الثقافة السابق والذي زار اليمن قبل سنوات والذي أعرب لي عن أسفه ان المطبخ اليمني والوجبات اليمنية الآي احبها كثيرا لم تحظ بالترويج اللازم. تاسف السفير السابق لعدم وجود مطعم يمني في باريس.

يتيم انا في العيد


13 اكتوبر 2013 

سياتي العيد ليذكرني بيتمي الابدي. كيف لي ان اتصور العيد بدونك او لا استقبل مكالمة منك تبشرني بقدومك الي. هل كانت معجزة المعجزات في العيد المنصرم حين قطعت تذكرة مستعلجة وكنتِ دفئ الدار لايام معدودات. لكنها ذاكرى مخلدة من النعيم وامتعاض الاصدقاء. النكاية فن لاختلاق متعه لا يعرفها سوى اباطرة النميمية.
....
يتفتق الخريف من دون زهر او تباشير وتتفتق معه احلام اليقظة. ذات يوم وقرب الغروب وبينما كنت على الشرفة تصورت انك كتبتي لي رسالة كهذه:
كؤوس النبيذ الاحمر الاربعة لا تكفي لهذه الراس الموجوعة بألم فراقك. لا شيء ينطوي على النسيان وألم الفراق. وحدك بعيدا تستلذ هذه الحالة وتمرح كما لم يفعل شيطان اخر. وحدك تترجل احزاني بفرحة وعربدة. ليس في الحياة رحمة ولا عدالة لانك فرح ومبتهج ومعربد ايضا. لست احزن لفرحك. هذا فرح يبعث على الفرح لكن القلب مطعون بمنجل تدرج ايام البعد والبين.
.....
عبثا كان تصوري وتهيئي. وانت هناك غارقة في بردك وغيومك الشتوية. الشمال جبل معتم. والجنوب موقد للاشتياق المضني. وليس في الامرين كؤوس ونخب. فقط كسرة يابسة من حنين وذكرى جافة. ورياح هذه العصريات مؤذية. وليس فيها امر ىسر وجميل. لحافي الأصفر المقصب ينادي يديك لترديه إلى حافة الكتف المهجور. انها جغرافيا من الشجن.
هل تدرين اني لم احلق لحيتي منذ ايام. ليس في الأمر اي امتثال لمناسك وثنية. انا فقط انتظر مرسومك الباهي.
....

يوما ما ستسافر اناملك بين الذقن والصدغ. يوما ما سابكي اكثر لانك اقتربتي مني. ولكن ليس كاقترابك الخاطف في هذا العيد. بعيدة قريبة انت. ولا ادري بشيء الا بالمصادفة. في هذه الحياة مصادر شتى للحزن. كانك تكونين هنا ولا تعرف المدينة عنوان لعطرك الباذخ. او يخبرني العذل وهم يلوحون بمشرط التشطير.
....
حسناً. ساشتري كعكة هذا العيد خالية من السكر والابتهاج. لونها قاتم كقطعة جبز اهملها الطباخ عندما حنق من ربة العمل. ولن اشعل شمعة في المساء سأتعذر باني فقدت قداحة العمر.

انوار الحكمة

12 اكتوبر 2013
انوار الحكمة
....
اظنني عيدت قبل العيد. لقد حضرت اليوم معرضا بعنوان "اضواء الحكمة" في معهد العالم العربي. كانت زيارة مزودة يتعلقات حول المعروضات من طرف اريك فاليه. قبل ان اتحدث عن المعرض ستأحدث عن ايريك فاليه. هذا اليمني اكثر من اليمنيين. هو في حقيقة الأمر ليس بيمني. ليس لأن اسمه ايريك فاليه بل لانه انساني. وعالم حقيقي وباحث من الطراز الرفيع.
اما المعرض فهو حول المدارس في القرون الوسطى في الشرق الغرب. مجموعة مخطوطات وكتب مخطوطة جمعت من الشرق والغرب لعرض فكرة التنوير وطريقها لتأسيس الحكمة. بمعنى ان المدرسة هي طريق الحكمة.
في رأي هذا الأمر لم يعد كذلك بالضرورة. فلم تعد المدرسة مسارا يوصل الى الحكمة. في الشرق صارت المدرسة طريقا للجحيم والكراهية والغباء ايضا. اما في الغرب فقد صارت المدرسة مصنعا لانتاج مكائن بشرية لتخريب الكوكب والنفس الشرية.
اليوم يطرق سؤالا حيويا في فرنسا حول ماهية المدرسة. المدرسة بكل المعاني؛ الفلسفية والاجتماعية السياسية.
لكن هل انفصلت المدرسة عن السياسة يوما ما؟
كما يقول احدهم ان العملية التعليمية هي خيار سياسي بامتياز فان المدرسة لا تنقل معارف فقط لكنها تنقل طرق حياة وخيارات سياسية واجتماعية.
المعرض الذي خصص لهذا الامر جمع اعمالا فريدة من حيث مضمونها ودلالتها فهي مخطوطات تعود على حوالي الف عام جمعت من الشرق والغرب وفيها رسومات في غاية الجمال ومخطوطات تسلب العقول في جماليتها.
لكن التفكير في دور المدرسة الاجتماعي والسياسي مدعاة للاشتغال والبحث.
لماذا لم تتمأسس المدرسة في العالم العربي والاسلامي وتتفق على اسس منهجية وسقف تعليمي موحد يخلق كوادر نافعة للمجتمع من الناحية الاقتصادية والاجتماعية. ثم هل كانت المدرسة مفتوحة لكل فئات المجتمع ومتيسرة وما هو سقف المعارف المتاج؟ هل كان للمراة حضور كدارسة او مدرسة في التاريخ العربي والاسلامي؟
مشكلة المعرض انه يتناول الشرق باعتباره الشرق الجغرافي. اي من الهند وحتى مصر ولكن الشرق بالمعنى الثقافي يمتد الى بلدان شمال افريقيا والاندلس وقد تكون الاندلس انموذجا ثقافيا مختلفا جدا عن الشرق الجغرافي في تمثيلها للثقافة العربية والاسلامية.
في احدى اقسام المعرض هناك قسم للترجمة او لتاريخ الترجمة في الشرق والغرب بمعنى ترجمة العرب لاعمال الاغريق واليونان وترجمة الغرب للاعمال العربية بما في ذلك قاموس ثنائي لاتيني عربي هو من القواميس الاقدم.
وكذلك رسوم تمثل النقاش بين المفكرين في تلك الثقافات كحوار بين ارسطو وابن النفيس.
درر انسانية حقيقة لكن الشرح المقدم من ايريك فاليه كان درة لا مثيل لها.

http://www.imarabe.org/exposition-ima-11665

عن الفصول الاربعة ويماني اصيل



1 اكتوبر 2013

زارنا اليوم في مكتب العمل رجل طاعن في السن. كان بهندام أصيل بمزاج كلاسيكي. انحنى ظهره من اثقال العمر وتجارب السنين. ابتسامة عريضة وكلمات ود ينطقها بعزيمة وتمكن.
قال: اضطررت الى المجيء مجازفة بعد ان حاولت الاتصال بكم فلم يجبني احد. ما كنت سأسف على عدم الرد فأنا اقدرانشغالاتكم لكني أستمعت الى المجيب الآلي بانتظار الإجابة وقد حز في نفسي ان الانتظار أفسده عدم جودة التسجيل للمقطع الموسيقي الساحر. نعم الاختيار. كانت مقطوعة من معزوفة فيفالدي : الفصول الأربعة وهي من ألذ ما يمكن سماعه من موسيقا لكن جودة الصوت كانت رديئة. انها واجهتكم وواجهتنا فعدلوا الصوت.
وبعد لقاء قصير انصرف.
كان عجوزاً يمانيا من أولئك الذين عاشوا زمنهم لحظة بلحظة. تشبعوا بالوقت واغتنوا معرفة استلهمتها حواسهم على مهل دون تسارع مقيت نعيشه نحن تحت تأثير التقانة الرقمية. بحثت عن المعزوفة فوجدتها على اليوتيوب بزمن يزيد عن أربعين دقيقة.
بالله عليكم من منا يملك الصبر والنفس للاستماع الى هذا الوحي في هذا الزمن الدعي؟

ليل



15 سبتمبر 2013

بأي ذنب يطول هذا الليل ويترك الرفاق عرضة لغولة الفضول تنهشهم رغبة في النقر على ذاكرة موجوعة تختبئ في فنجان نحاسي مقلوب.
لست انتِ معَلَم الهداية في هذا البحر المتلاطمة امواجه ولست انا القارب الآمن.
تخاصمنا على المجداف الأخير فالقينا به في اليم. هل نجدف بايدينا الخاليتين من الأمل.

الموسيقا في باريس



21 يوليو 2013

ليست الموسيقا تعبيرا فنيا فقط. هي ايضا صوت الفرد للتعبير عن ما يختلج بداخله ونظرته للحياة وتفاعله مع الاحداث.
يتجاوز الامر التعبير عن حالة الحب فقط بطريقة ميانيكية تفتقر لمحاكاتها للواقع.الاغاني في الغرب، في فرنسا هنا تحديدا هي ايضا مانفيستو سياسي واجتماعي.
قبل أداء الاغنية على الهواء الطلق اوضح المغني ان اغنيه من ايحياء فتاة سعودية شجاعة ترغب في تجاوز القيود المفروضة على قيادة النساء للسيارات.
بما ان لاغنية قريبة من الناس ومن واقعهم يحضرون بكثافة ويتفاعلون. يحضرون من مختلف الاعمار والمستويات الاجتماعية والاقتصادية. ومن مختلف الاطياف والالوان.

أنمار




أنمار 


29 مايو 2013

عصر اليوم الأربعاء 29 مايو 2013 رزقت مولود جديد ذكر أسميناه أنمار. الحمد لله على هذه الهدية والحمد لله أكثر على صحة الأم.
....
ان تكون ابا لطفل جديد فأنت ترتكب جريمة بحق غيرك. لكن ما هو أكثر اغراء في الحياة من أن تضمن امتدادك البيولوجي. سيبدو في الأمر سذاجة وغرور غير مبررين. فمن يكون الفرد منا وما هو العبقري فيه غير أنانيته الوقحة المؤلمة؟
ولكن أي امتداد؟ هل هي مواصلة للشقاء والبؤس أم فتح جديد على أبواب النعيم؟ هل المسألة ليست أكثر من تكرار ممل لشخوص واجساد عابرة للتاريخ بسلبية فجة تصل الى حد ان يعيش الجيل عيشة دواب تنتظر الزاد ويوم الوفاة؟
...
صرت أبا لثلاثة أطفال من البنين لا اخت لهم حتى الآن. وأظنه ظنا تغلب عليه الرغبة أن أنمار هذا سيكون آخر العنقود. فلا رغبة لي ولا طاقة لأمه المسكينة في تحمل طفل رابع.
...
مع هذا الطفل، انتابتني احاسيس مختلفة عن سابقاتها. ففي ولادة الطفلين السابقين خصوصا الأول لم اكن حاضرا ولم أصل إلا بعد يومين من الولادة وعندما رأيته شعرت بصدمة كبيرة لا أدري ما مصدرها ربما كنت اتوقع طفلا بملامح ثلاث سنوات على الأقل ولم اتمكن من الإتلاف مع ملامح الوليد بسهولة، بل أنه استقبلني على طريقته. فأول ما أوتي به إلي ونفض عنه اللحاف (القماط) وشاهدته عاريا مستغربا من حمرة بشرته وكبر عينيه وتقلباتهما غير المألوفة فبدا ذلك له في وجهي وتبول علي للتو. عبّر عن ذاته وأبعدني عنه كما يحلو له.
في ولادة الطفل الثاني كنت اقل لامبالاة من الأول وكنت حاضرا جسديا لكني متعب وارغب في النوم. فقد كان في الجوار خالا الوليد وقبلهما جدته المباركة.
لكن هذه المرة اصابتني نوبة احباط شديدة واكتئاب مبكر منذ ان سمعت ان امه حاملة به... وتعقد الأمر اكثر بسبب هواجسي المرضية.. وشاءات الاقدار ان ارافق أمه إلى آخر لحظات الولادة سيما وامها الغالية غائبة هذه المرة وقد كانت تسهل علي مشقة الأمر واعفتني من مهام الزوج وادخرت لي لحظات ابوة صافية من عناء ومسؤولية مرافقة الولادة.
...
أنا في حقيقة الأمر احب الاطفال لكني لا ارغب في الحصول عليهم وقد يعود الأمر الى نزوة طائشة تسيطر علي او وهم التمرد والحرية المطلقة القريبة الى الصعلكة السامية. وها أنا في نهاية المطاف اب لثلاثة أولاد. وقد علمتني أحداث العامين الأخيرين في اليمن ان الحياة مليئة بالبشاعة التي لا تحتمل معها إضافة حياة جديدة تتلقى بؤس وشرور هذا العالم. مع هذا حصل وان جاء الطفل الثالث.
ما عساه سيكون. فوه فاغر جائع يضاف الى ملايين ملايين الافواه الجائعة في هذا العالم ام يدين عاملتين وعقل مدبر ياتي الى البشرية؟
ثم ماذا عن الاسم الذي ارتضيناه له. هل سيقبل به بكل يسر ويحب اسمه ونفسه كفاية؟ ام سيتذمر منه ويلعن ابويه على هذا الأسم؟
سبق وأن طلب مني ابني الأول استبدال اسمه بعد مرور اربعة اعوام من حياته. ادهشني الطلب وحسبت الأمر كان بايعاز من زميل له او من خالة متزمتة دينيا تتوقع ان اسم إلياس لا يمت بالاسلام بصلة- كما هو عهدنا بجنون التدين السطحي. وعندما واجهته بالسؤال لماذا ومن طرح عليه هذا الاقتراح لم يجبني بشيء مفيد انما قال هكذا وسرعهان ما تنازل عن الفكرة وربما تعاوده الفكرة بعد حين اذا اشتد عود الاصوليين المتطرفيين الاسلامويين.
اما الطفل الثالث فاظنه لن يحتمل ان يكون له اسم مغاير رغم اصالة الاسم تاريخيا وايجابية دلالته اللغوية.
هذا شأنه في نهاية الأمر.
...
اليوم لا أفكر في أكثر من لوازم الأم والطفل. اه من مشاغل الحفاظات والصابون والشامبو. ولكن اي رسالة يمكنني او يجب علي ان ازرعها في هذا الصغير؟ في لحظة لم امسك بعد بالبوصلة في شؤون حياتي ولم اعرف بعد الوجهة الصحيحة انا الذي وصلت منتصف العمر المتوقع لي في بلد كاليمن في أحسن الظروف؟ يحرص أخواله على أن ألقى على مسمعه الأذان كاملاً وكأني بهذا اقطع عليه حق الاختيار مبكراً. وأنا بين معضلة الامتثال للعادة والوعي الشقي بحق الاختيار المسلوب.
بعد عشرين عاما سيكون العالم أكثر انشغالا بالقضايا البيئة وربما يصدر تشريعا بمنع او تقنين استخدام الحفاظات بالتالي سيجد الصغير نفسه مشبعا بتأنيب الضمير على فعلة لم يكن هو السبب فيها وسأتحول أنا وأمه ربما الى مقترفي ذنب ومسببي خراب للبشرية. اي محاكمة سننالها من هذا الصبي لو قدر له عمر مديد وتجاوز احتمالية الموت المجاني الوفير في هذا البلد؟

الأربعاء، 5 مارس 2014

القبيلة والسوق المعولَّمة

القبيلة والسوق المعولَّمة
مصطفى الجبزي

يناير 2010
لم يعد من الممكن تصديق من يقول أننا وعلى هذه البلاد نعيش في منأى من التحولات وموجات الخير والشر التي تجتاح عالم اليوم، وان بمقدور جبالنا الشاهقة الحصينة ان تكف عنا "الأذى" الوارد من البعيد أو حجب ما نصنعه في أنفسنا وفي بعضنا البعض عن الغير. لقد جعلت التكنولوجيا وما توفره من وسائل اتصال وتبادل للمعلومات وقدرة اتصالية فائقة، جعلت من هذا العالم قرية واحدة يطلق عليها البعض قرية كونية. وبالتالي، تكثفت الاعتمادية المتبادلة وزادت القدرات التبادلية وغطت كل القطاعات التبادلية من تجارية واقتصادية واجتماعية وثقافية وسياسية حتى صار الفرد البسيط قاطن الجبل أو السهل معنياً بشكل أو بآخر وبمقدار ما بما يحدث للاندونيسي او للجنوب افريقي أو للكندي من تحولات حياتية ذات أثر مستقبلي يجتاز الحدود ويعبر المحيطات.
ولقد تشكلّت كيانات مجتمعية عالمية منذ فترات زمنية طويلة وخصوصا في القرن العشرين وصارت تاثيراتها وقدراتها التدخلية لا مفر منها إلا بمقدار المقاومة والحد من الأثر، أما تجنبها فلم يعد هو المشكل. وهذا التحول رافقته سرعة كبيرة في طرف من الكوكب فيما الطرف الآخر لم يستطع مواكبة هذه السرعة وبالتالي فإنها تمر عليه اجتياحاً وغمراً. ومن المجتمع الصناعي وعصر الآلة البخارية إلى مجتمع المدينة الرقمية والمدن الكبري الميتروبوليتين، هكذا تحول وأبعد، يقابله مجتمع المدينة المريّفة والقبيلة التائهة في اليمن. وهذه الصورة تدفعنا على نحوٍ مجازف إلى وضع القبيلة في كفة والدولة العالمية في كفة أخرى. ما يدفع بالتفكير في مصير مجتمع القبيلة أمام القدرة الهائلة لتحرك الكيانات العالمية وامكانتها وادواتها خصوصا السوق؛ بمعني حرية التبادل وحرية التدخل والتوسع الناعم.       
وقبل الشروع في الحديث عن القبيلة والسوق المعولمة  اسمح لنفسي ان اضع بين ايديكم الدافع وراء كتابة هذا الموضوع . ففي أول اسبوع بعد عيد الاضحى، ذهبت ليومين برفقة اصدقاء لحضور عرس صديق آخر لهم إلى محافظة البيضاء (268 كم من العاصمة صنعاء).
 نزلنا في ضيافة عائلة كريمة واستقبلنا بحفاوة بالغة ومع أننا لم نكن نخطط للبقاء لأكثر من اثنتي عشر ساعة إلا أننا بقينا يوماً ونصف يوم بعد إلحاح شديد[1].كانت رحلتي هذه من صنعاء إلى إحدى القرى المجاورة لمدينة البيضاء عاصمة المحافظة (قرية الروضة) جاءت بعد عودتي الي اليمن من رحلة خارجية لثلاثة أسابيع قضيتها في الصين قبيل عيد الاضحى، وهي بمثابة انتقال نوعي بحق.بعد الترحاب وتبادل التحايا وتقديم التهاني وأخذ الصور وتناول الطعام ومضغ القات وما رافقه من احاديث متنوعة لكنها في معظمها تشترك في هدف واحد يصوغه اللاوعي الجمعي خلصت إلى نتائج هامة بالنسبة لي.

ففي البداية تلقيت درسا كبيراً في الاعراف القبلية. وراقبت عن كثب مشاهد التمثيل simulation   بين كبار السن والشباب والتي تملي وتكرس القيم الاجتماعية ونواميس القبيلة. كما ادركت مقدار تجذر الوعي القبلي ومفاهيمه وتركيز الاباء والاجداد وحرصهم على توريث هذه الشحنات وربطها بكل سياقات الحياة اليومية. الأهم أني أدركت طلب الناس الملح لدولة تؤمهم وتصلح شأنهم وتنظم حياتهم وتلبي احتياجاتهم وأهم من ذلك ان تؤطر طاقاتهم وتوجهها نحو الاتجاه الصحيح . كما ادركت حجم الضرر القائم جراء الاقتتال بين الناس ورغبتهم في الخلاص من هذا الوضع.

كما شاهدت تعامل الناس مع آخر مقتنياتهم من التقنيات (هواتف خلوية وحواسيب محمولة...) واستمعت إلي حواراتهم والقضايا التي يناقشونها وبسقف عال من الشفافية والنقد، خصوصا اذا ما كانت القضايا تخص الغير. لكني تفاجأت من مستوى الوعي لدى البعض منهم واستحضارهم لصيغ وعبارات ومفاهيم وقيم في غاية الحداثة.

كما شهدت الانقسام في المواقف من بعض القضايا كالوهابية ولوازمها من سلفية وتدين مبالغ فيه وموقع المرأة في الحياة الاجتماعية وموقفهم من الدولةوالمدرسة والعملية السياسية برمتها.  
لكن الدهشة الحقيقة كانت من حضور الشعر في حياتهم وتلقائية السجال الشعري حول المواقف وهو ما جعلني اشعر بعجز كبير عن التعبير وبأسى وحسرة على فقدان تلقائية التعبير وشعرية القول وان تعليمي وقراءاتي لا تساوي شيئا ان لم تكن مكللة بالشعر.



بعد هذا لم تكن البيضاء سوى نموذجا يسمح بالحديث، من واقع معيش، عن القبيلة وجاءت الزيارة مصادفة لكنها مليئة بالدلالات.
 ولكن في امر القبيلة يمكن القول اننا حاليا بصدد الحديث عن مرحلة جديدة وهي علاقة القبيلة بالسوق بالمعنى الاوسع لهذه المفردة وبالتالي بالعالم ولم نعد في صميم السجال حول علاقة القبيلة بالدولة لأسباب كثيرة منها ان هذه المسألة اصبحت مشخّصة من الناحية العلمية الاجتماعية وهي ان العلاقة القائمة بينهاذين الكيانين الاجتماعيين هي علاقة عكسية فكلما قوت الدولة ضعفت القبيلة والعكس صحيح لكن هذه العلاقة لا تعني إلغاء أي من الكيانين للاخر ولكن في حالت قوت الدولة تذوب القبيلة لانها تندمج في اطار اوسع وإن قوت القبيلة حاولت التهام الدولة[2] وهي تدخل في هذه الحالة في مرحلة عميقة من الصراعات الاجتماعية وتشظي الهوية الكلية للمجتمع وحلول اقتصاد الانتهاز والاستحواذ والدخول في سجال من المعارك اللانهائية والهدر المتعدد المستويات للطاقات والافراد[3] والاسواء طالما والقبيلة في بنيتها مولدة للعصبية هو الوصول إلى حالة قابلية التشظي وقابلية التدخل والاحتلالعلى ان هناك فوارق جوهرية بنيوية بين الكيانين لا يتسع هنا المقام لذكرها كاملة ومن اهمها ان القبيلة في ذاتها مشروع لهويات صغرى ولا تخلق وطن[4]وهي في ادني مراتب سلم الفعل السياسي ان جاز لنا ضمها اليه. فضلا عن العلاقة القائمة فيها جماعية الطابع (من حيث المسؤولية والواجب) وهي في حالة الدولة فردية (أي قانونية مكتوبة)[5]. لكن الاهم هو ان القبيلة في اليمن تمثل حالة خاصة او مختلفة عن القبيلة بالمعني الاجتماعي الانثروبولوجي وفقا لدراسات القبيلة في افريقيا مثلا لان القبيلة في اليمن تقف في مواضع بعيد من كل من حالة البداوة و الحضر او الدولة وسبق وان تغلفت او ألبست قيمهابصبغة دينية مقدسة واحينا تغلّب قيمها على حساب الدين؛ أي على حساب الاسلام في حالتنا نحن[6]. وهذه المميزات تمثل إشكالية كبيرة على مستوى الدراسة والتشخيص والبحث عن افاق تغييرية، لكنها بالمقابل تمثل تحديا شائقا لدراسة التركيبة الاجتماعية للمجتمع اليمني. الاسواء في القبيلة هو ارتكازها على مجموعة من الاوهام ابتداء من النسب (وهذه واحدة من ملاحظات ابن خلدون) والعراقة والاصالة والنجابة والامتيازوهي لا تقوم إلا على وهم انها الافضل مقابل هدم الاخر[7]. على ان هذه الجوانب لا تنفي ايجابيات قائمة في القبيلة او البناء القبلي، وهي ايجابيات نعتمدها افتراضا لان القبيلة في الوقت الراهن لم تعد بالتاكيد القبيلة ذاتها في النصف الاول من العقد المنصرم على الأقل ولنا على ذلك دليل ان رئاسة القبيلة كانت تعطى كمبداء لمن هو اكثر حكمة وقدرة على التعبير ورعاية مصالح افراد القبيلة وبالتالي هناك امكانية انتقال هذه الرئاسة بين زعماء قبل من القبيلة وليس بالضرورة توارثها كما هو حاصل اليوم سيما وتناولات القبيلة في اليمن تقر بأن القبيلة وقيمها تمر بمراحل التدهور والتشويه وتجسيدا لهذه المقولة يستشهد البعض بالتطور الذي حدث لمسألة الثار التي كانت تنتظم في اطار اعراف وقوانين منها عدم الاعتداء على الاطفال او النساء او عدم الاخذ بالثأر في الأسواق فيما واقع اليوم يشذ عن هذه القاعدة. وعليه فالحكم انما يجب ان يتم على ما هو قائم لا على ما هو مفترض.

ولكن مزاياها كهذه من كرم وشهامة ونخوة وعزة نفس وما إلى ذلك... هل هي قادرة على الصمود امام السوق وقيّمه؟
مع ان القيم القبيلة هذه محمودة لذاتها لكنها في صيغتها الحالية غير قابلة للتكّيف مع السوق والقيمة النفعية له وطابع الفردية وقيم العمل.
ونضرب على ذلك مثلا وهو رغبتنا الملحة في الترويج السياحي واجتذاب السائح كوسيلة لتحسين دخول الناس وتوفير فرص عمل جديدة تعود على المواطنين بالربح ولكن كيف سياتي الربح ونحن نستقبل السائح "ونكرمه" في ضرب من السفه والتبذير وفقا لإملاءات قيم القبيلة. وثم موقف آخر لتصادم قيم القبيلة وقيم السوق وهي وفقا للطابع البنيوي للقبيلة الذي يقتضي ان يكون الفرد فيها ملزما بما هي ملزمة وهو –أي الفرد- بالتعريف احد جنودها وبالتالي فيما لو نشبت حربا قبلية صار لزاما على افرادها ترك اعمالهم والمسارعة إلى ربعهم للانضمام إلى صفوف المقاتلين الاخوة الاعداء. وعلى نحو اكثر تفاؤل ينبغي على افراد قبيلة ما المشاركة في جلسات التسوية (الموقف او التحكيم) والاصطفاف من قبيل الحشد واظهار جهوزية الافراد/ الجنود لاسترجاع المكانة المهدورة بسبب الحادثة موضع التحكيم.
  
وقد يهم بأحدهم السؤال: لماذا تضع القبيلة في مواجهة السوق على وجه التحديد؟  
 إن وضع القبيلة في مواجهة السوق معادلة تقتضيها حيثيات معينة نتيجة للموقع الذي تجد الدولة نفسها فيه في خضم مراحل مخاضات العولمة. والسوق هنا احد تمظهرات الوضع الجديد أو مرحلة العولمة التي لها أبعاد كثيرة وهي في مجملها رمز لمنظومة متعددة الأوجه وبالتالي لها قيم وقواعد ومؤسسات وتستند أساسا على البعد المرن او القوة اللينة وتتخذ من الثقافة مدخلا لكل الأبعاد الأخرى.

والعولمة في احد تعريفاتها هي تقليص سلطة الدولة (ككيان سياسي فيه شعب وأرض وحكومة وتعبيرات اجتماعية وثقافية) لصالح مؤسسات أخرى ذات بعد دولي وهي منضمات وأسواق وشركات وبالتالي كان هذا الوضع على حساب الدولة القطرية[8] وأضحت التكوينان الاجتماعية المنضوية في إطار الدولة هي المواجهة للكيانات الأكبر الدولية ولكل منهما قيمها الخاصة وبالتالي تكون المواجهة بين القيم.

وهذه التكوينات ذات البعد الدولي بفعل القوة التي تمتلكها والنفوذ والتعقيد من التراكم والتأصيل والنفعية والاستراتيجيات قادرة على التهام الصغيرة ذات البعد الوطني على أن هذا لا يستثني تشكيل حركة معاكسة من رد الفعل هي بالضرورة منغلقة على ذاتها وأصولية وعنصرية لانها، أي القبيلة او حتى راسمالها التي تستثمره، لا تفقه قواعد اللعبة ولا تجد مضمارها المفضل في المنافسة والعمل ولهذه العناصر سلبياتها الكثيرة، هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى، لم يعد من المعقول أن نطلب من الدولة أن تتبنى من الآن فصاعداً مسؤولية صهر القبيلة في كيان اجتماعي أوسع هو الوطن وأن تقف في مواجهة التأثيرات السلبية للعولمة لأنها، من جانب، لم تفعل ذلك حينما كانت الفرصة مواتية، ولأنها لم تعد قادرة حالياً على هذه المواجهة بحكم تغوّل العولمة من ناحية، وبحكم التوجه الذ سلكته الدولة في سياسيتها الاقتصادية وتبني سياسية الانفتاح على السوق والمنافسة وهذا انتج تاثيرات سلبية ليس على الصعيد الاقتصادي فحسب بل وعلى الصعيد الاجتماعي والثقافي[9]. ولهذا في نظرنا فإن المواجهة – غير العادلة – تقع بين القبيلة كقيم ومنظومة والسوق كقيم مع فارق الوسائل بالطبع.

وهذه المرحلة حرجة بالفعل، لأنها  لحظة خارجة عن السيطرة ، أو لنقل – من باب التفاؤل – عسيرة على السيطرة وأصبح المطلوب لزوماً هو توزيع المسؤولية على نحو فردي في إطار منهجية تقود إلى الجماعي. كما أن المطلوب هو إعادة الاعتراف بالقبيلة بصورة أخرى تعيد إليها الاعتبار والحق في المصلحة على قاعدة المواطنة المتساوية.
فلا يمكن لي او لأحد عيري نكران بعض فضائل القبيلة في المجتمع اليمني فلقد كانت واحدة من أشكال التحصين ضد الغزو و"الانسلاخ" وشكل من إشكال تجليات الحرية مقابل السلطان الجائر في التاريخ الإسلامي، بحسب عبد الله العروي (مفهوم الحرية)، وهي أحد جذور الهوية ومفاصل التماسك الاجتماعي لدي المجتمع اليمني، ولكن هل ما تزال القبيلة، في ظل الوضع الراهن وما شابه من تشوهات لحقت بالقبيلة، قادرة على تأمين هذه الوظائف على نحو كلي وشامل؟

أنا، في حقيقة الأمر، كلياً، مع الإبقاء على القبيلة كمعطى ثقافي له دوره الهام في تشكيل الهوية الوطنية المتعاونة المتسامحة المنفتحة، لا كمعطى سياسي؛ لأن تركيبتها الاجتماعية لا تصل إلى مقام دولة ولا تستطيع استيعاب دولة لتشكيل وطن.

فحضورها الثقافي قد يكون عنصر تميّز ودافع انجاز بعد تمازجه بالبعد التاريخي المهذب والمنقح، ولها دورها في توطيد روابط الوحدة والجماعة ولكن دورها السياسي قد ينتقص من وظيفة الدولة ويكون على حساب هذه الأخيرة مما يشكل إعاقة أمام تطور كيان الدولة / الوطن.

وبالتاكيد أن القبيلة ككل كيان اجتماعي وسياسي أيضا لا تمثل حالة من الاستاتيكية بل تعرف التغيير والنمو والانتقال من مرحلة الى اخرى. لكن هل القبيلة قادرة على مضارعة سرعة التحولات التي تزخر بها العولمة او السوق؟ بالتأكيد لا.

وثمة إشكال جوهري ملازم في حالة القبيلة وهو طبيعة التفكير والتخطيط المتوافر في القبيلة مقارنة بما بتوافر في السوق؛ في القبيلة وبحكم بناءها، لا ترتكز على التفكير الجمعي ولا تشتغل على الاستراتيجيات والمستقبليات، بل انها آنية وظرفية (ما بدا بدينا عليه)، فيما السوق يقوم على مراكز بحثية ودراسات عميقة وهذا الفارق في المنهجية واحدة من مكامن الهشاشة والضعف، وعليه قس الدولة التي تسير بعقلية قبيلة.   
وانا هنا اصرّح اني لست ضد القبيلة لذاتها ولكن ما أخشاه في ظل تكلسنا والتحافنا لمعطيات القبيلة هو ان نترك سوق العمل لمن هم اقدر على اقتحامه ونفاجأ في ان مدننا غدت مليئة بالهنود والصينيين فيما نحن نتنكب البنادق!!!!


*نُشرت المادة في بادية العام 2010 في موقع الاشتراكي نت لكنها باتت غير  متوفرة هناك. 

[1] لقد قيل لنا: ليس من حقكم الذهاب في نفس اليوم الذي جئتم فيه فاعرافنا تنص على أن يوم المغادرة يكون نفس يوم الوصول في اسبوع مختلف؛ أي ينبغي علينا ان نمكث في ضيافتهم اسبوعا أو اسبوعين.  
[2] انظر ا.د. حمود العودي، جدلية العلاقة بين تطور الدولة واستمرار القبيلة (اليمن نموذجاً)، مركز دال للدراسات والانشطة الثقافية والاجتماعية، صنعاء. يناير 2007  
[3] انظر د. مصطفى حجازي، الانسان المهدور(دراسة تحليلية نفسية اجتماعية)، الطبعة الأولى. المركز الثقافي العربي ، الدار البيضاء – بيروت، 2005
[4] انظر د. مصطفى حجازي، مرجع سابق
[5] عن محاضرة في مساق الدراسات السكانية والابحاث الاجتماعية (دبلوم عال) للدكتور حمود العودي، استاذ علم الاجتماع جامعة صنعاء، 2006
[6] وجهة النظر هذه خاصة بالكاتب ومنطلقها ان كلمة العيب في المجتمع اليمني تأخذ بعدا زجريا اكبر من كلمة حرام ذات الصبغة الدينية.
[7] انظر محمد عابد الجابري، العصبية والدولة عند ابن خلدون، مركز دراسات الوحدة العربية. بيروت 1992.
[8] انظر د. محمد عابد الجابري، قضايا في الفكر المعاصر (العولمة...)، الطبعة الثالثة، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 2003
[9] انظر. د. جلال امين، العولمةوالتنمية العربية، من حلمة نابيليون إلى جولة الاوروجواي، (تكاليف العولمة المتأخرة، "حالة اليمن")،الطبعة  الثانية، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2001. ص 67- 72.      

الثلاثاء، 4 مارس 2014

قراءة تقيمية للفعل الثوري في اليمن

قراءة تقيمية للفعل الثوري في اليمن

مصطفى ناجي
 سبتمبر 2011 

"ما ان تنفجر الحرية في نفس إنسان فأن الآلهة لا تقوى على صنع شيء ضده. جان بول سارتر. الذباب."


الهدف من هذه الورقة البحثية هو
- كشف البعد الاجتماعي والاقتصادي للقوى الثورية منذ الشرارة الاولى وصولا الى اخر الاطراف التي انضمت في صفوف الثورة.
- كيف فهم اليمنييون الثورة؟
- انجاز قراءة تقيمية للفعل الثوري في اليمن من خلال دراسة المنحنى الخطي لهذه العملية عبر الامتداد الزمني وقياس مقدار ونوع التطور المنجز.
-استبصار احتمالات تحول الفعل الثوري الى ارهاب وعمل عنيف وتاثيراته الاجتماعية؟   
- كشف امكانية استمرار الثورة من اجل تحقيق اهدافها، نقطة الوصول؟
                                                                     
يتحدد المجال الزمني لهذه الدراسة بفترة انطلاقة الفعل الثوري والتي نقدرها بانها في النصف الأول من شهر فبراير وحتى لحظة الشروع في الدراسة أي النصف الأول من شهر يونيو.

قبل الشروع في هذا العمل نرى ضرورة منهجية تتمثل بالقيام باستحضار تعريف المفردة الاهم لهذه الدراسة وهي مفردة ثورة.

يقدم معجم لوغران روبير Le Grand Robert تعريفات للثورة من خلال سياقات الاستخدام ويبدا بتعريفها على انها حركة في منحنى ثابت. لكن المفردة بدأت في القرن السادس عشر تدل على تغير مفاجئ في المجتمع لتتضح الدلالة على انها تغير مفاجئ وكبير في النظام الاجتماعي والفكري والاخلافي والجمالي. لكن ثمة تعريفات اخرى للثورة على انها تحول كامل (معزز بفكرة تغييرات كبيرة في المجتمع ولكن من دون قسر او عنف) وهذا التوصيف يطلق عادة على الثورات العميقة والخفية. وفي القرن التاسع عشر اخذ مصطلح ثورة يدل على انتزاع واعادة توزيع للسلطة المحصورة في الاوساط القريبة من الحكومة دون مشاركة شعبية. ويشير المعجم الى ان المعنى الاكثر شيوعا للكلمة يدل على انها مجموع احداث تاريخية تحصلت في جماعة بشرية كبيرة ( تكون وطنية في العموم) عندما نجحت مجموعة ثائرة في اخذ السلطة السياسية ونتج عن ذلك تغييرات عميقة في المجتمع (سياسية واقتصادية واجتماعية) وتقترن الثورة هنا بالتمرد او الحرب الاهلية ويمكن لهذه الثورة ان تاخذ بعد صراع الطبقات او الصراع الاجتماعي وقد قال ماركس: إن الثورات هي الدينامو المحرك للتاريخ. ورد في تاريخ الثورة الفرنسية كتعريف للثورة بانها قدوم القانون واعادة بعث الحق واقامة العدل. وقد عُرِفت الثورة الفرنسية بانها اقامت شرطين اساسين للاشتراكية وهما الديمقراطية والراسمالية لكنها في عمقها كانت بلوغ الطبقة البرجوازية الى السياسة.
في حين ان البعد الدلالي للثورة الصينية كان قلبا حضاريا وانقلابا للاعراف وكانت تستهدف القضاء على كل اشكال النفوذ القديمة في الحالة الاجتماعية. الثورة في بعدها الايديولوجي هي تغيير المجتمع بالوسائل الجذرية. وهي في مذهب تروتسكي ثورة دائمة. وهي مقرونة دوما بانها التغيير الذي يولد الاضطراب اذ يصورها روسو على انها عاصفة تثور في دمائه وتبلغ في هنيهة كل اطرافه. وفي الحديث عن الثورة نستحضر دوما مفردات من قبيل القوى الثورية، الحكومة والسلطة الناتجة عن هذه الثورة. يتم الحديث عن انتصار او فشل الثورات. وكذلك الاسباب السياسية والاقتصادية للثورة ناهيك عن مكتسباتها القيمية. فيقال عن الثورة الفرنسية بانها ابنة المسيحية لانها نادت بالاخوة في واحده من مكتسباتها القيمية. تتحول الثورة من فعل إلى نزعة كأن يُنظر الى الثورة بانها غاية سياسية في ذاتها.

وكتعريف اجرائي للثورة اليمنية فاننا نراها هبة شعبية من خلال اجتماع لتكتلات اجتماعية وسياسية وعسكرية مجمعة على ضرورة التغيير كهدف من خلال الرغبة في اسقاط النظام وباستخدام ادوات متنوعة بحسب جاهزية وادوات الثورة لدى كل طرف مع ادراك لاهمية ان تتخذ الثورة مسارا سلمياً قدر ما امكن.


كيفية التقييم

سيتم ذلك من خلال تحديد محوري الحركة باعتبار ان نجاح الثورة باسقاط النظام وتبني نظام ديمقراطي لدولة مدنية هو الحد الاعلى في المحور ص بعد ان يتدرج هذا المحور ابتدأ بتفعيل العمل المعارض للنظام وتعريته ونقل حقيقته على مستوى الداخل والخارج وتفكيك التحالفات التي يرتكز عليها وكذلك دفعه الى الاعتراف بالقوى الثورية وحضورها وفعاليتها ودرجة تاثيرها وتقليص مساحة المناورات لديه وشل قدرته على التحرك وان اليات الوصول الى ذلك هي ادوات الفعل الثوري واساليبه التي تبدأ بالمظاهرات والمسيرات والاضرابات والعصيان المدني والاعتصامات وصولا الى المواجهة المسلحة كاقصى حد للمحور س. 

لا نهدف هنا الى تقييم الفعل الثوري من حيث النجاح او الفشل وذلك لانه فعل اختط له مسارا ما وهو ماضٍ فيه بنسبة حياد معينة ولكن من حيث قدرته على احداث اثر مستقبلي ونوعية هذا الاثر وذلك بالنظر الى طبيعة الانتفاضة الثورية وان كانت انتفاضة راديكالية  ام انها تطبيق لنموذج نظري يمثل تطلعات سياسية وكذلك من حيث طبيعة الانقسام الذي قد تقود اليه الثورة داخل المجتمع وما اذا كان هذا الانقسام يعزز احتمالية الوقوع في دائرة العنف والحرب الاهلية كنتيجة لتباين رؤى القوى الثورية واختلال التوازن بين هذه القوى ناهيك عن ادوات وفعاليات التاثيرات الخارجية (الاقليمية والدولية).


من هي القوى الثورية

"الثورة -  اي ثورة- كالنهر، والنهر – على عظمته- يتألف من قطرات من الماء، والثورة – على عظمتها – كذلك تتألف من أعمال صغيرة أو كبيرة صنعها افراد عديدون من البشر، ومن قطرات أعمالهم- - وفي معظم الاحيان من قطرات دمائهم – يتكون النهر الذي يصنع التغيير ويبدع في الاخصاب والنماء وتاسيسا على ذلك فانه من المستحيل على فرد او افراد معدودين ان يصنعوا ثورة حقيقية،..."[1]

في كشف البعد الاجتماعي والاقتصادي للقوى الثورية التي اطلقت الشرارة الاولى وصولا الى اخر الاطراف التي انضمت في صفوف الثورة يتحدث بعض الشباب الذين خرجوا في الايام الاولى لمسار الثورة وذلك لتهنئة الشعب التونسي على انجاز ثورته عقب فرار بن علي وكذلك لمساندة الشعب المصري في ثورته وكانوا بعد الظهر يعودون ادراجهم وهم لا يملكون قيمة وجبة الغداء وبهذا فان الشرارة الاولى للثورة في اليمن كانت نتيجة وعي سياسي وفهم للضرورة الحتمية للثورة ولكن من فئات قدراتها المادية محدودة. بمعنى اخر ان النخب "الفكرية"[2] هي المحرك الاول لهذه الثورة وكانت تتشكل من كافة الاطياف السياسية المعارضة بالرغم من ان الشباب الاوائل لم يعلنوا انتماءاتهم السياسية علناً لكنهم يضمرون بلا شك ميولات سياسية في بلد تعددي حزبيا[3].

كان الشباب في مجاميعهم الاولى عبارة عن طلاب ونشطاء في الجانب السياسي والحقوقي واحيانا بعيدا عن تنظيماتهم الحزبية.

ثم توالت التضحيات بالوقت على وجه الخصوص حتى ان الشباب وضعوا ابناء القبائل المشهورة بشجاعتها وتضحياتها في موقف محرج لانهم واجهوا قمعا بشعا بصدور عارية وهذا سرع من انضمام بقية الشرائح الاجتماعية الى الثورة. وكانت ابرز القوى التي انضمت في صفوق الثورة هي القوى القبلية لما لها من ثقل في التركيبة الاجتماعية لليمن وكذلك المؤسسة العسكرية المناصرة للثورة والتي احدثت اثرا بالغا باعتبارها قوى عسكرية كانت قريبة من النظام وتمثل سندا له لكنها في نفس الوقت على قدر كبير وهام من الارتباط بالقوى التقليدية والسياسية المعارضة.  

هناك الفئات المهنية من اطباء ومهندسين ومعلمين وغيرهم انظموا بكثافة واصرار الى صفوف الثورة وهذا له تاثير هام باعتبارهم ممثلوا الطبقة الوسطى في المجتمع وحاملي وعي نقابي وسياسي ايضا.

ومن خلال واحدة من مسببات قيام الثورة والتي سنتحدث عنها لاحقا نجد ان الرأسمال كان ايضا مساهما ولوعلى نحو خجل احيانا كثيرة في هذا الفعل الثوري لأنه يرى ان مشروع التوريث وتوغل اركان النظام في الجانب الاقتصادي بالاستقواء بامكانات الدولة سيضر مصالح التجار والمصنعيين على نحو مباشر.

اي ان الطبقة البرجوازية من اثرياء ومتوسطي الثراء كانوا مساهمين بقوة في هذا الفعل الثوري والا لما استطاعت الساحات ان تصمد لمدة تزيد عن مائة يوم رغم الكلفة الاقتصادية ورغم بؤس الواقع الاقتصادي لليمنين على نحو عام.

تفتقر الثورة اليمنية للطابع الثوري الاجتماعي لانها لا تولي هذا البعد حقه فهي تتكلم عن الدولة المدنية وعن الحريات في الاطار العام ولا تتحدث عن منجز منتظر وواجب متعلق بفئة او طبقة اجتماعية معنية كما انها في اهدافها العامة التي يصوغها الشباب تولي البعد السياسي قدرا كبر بينما تكتفي بتحديد مطلب اقتصاد السوق كركيزة ليمن الغد وهذه نقطة من الاهمية بمكان لكنها تفتقر للتوضيح بالنسبة لجماهير الثورة في تقديرنا.

نجد ان البنى الهيكلية للتركيبة الاجتماعية لليمن تتواجد لدى الجانب المؤيد والمناهض للثورة عدا فارق وحيد وهو ان الجانب المناهض للثورة يعتمد ضمنيا في مناهضته هذه على تبريرات مناطقية لا تطلع الى سطح الجدال الدائر حاليا من جهة رسمية لكن لا احد يستطيع نكرانها. والمثل على ذلك هو تخوف بعض ابناء مناطق الهضاب المرتفعة من تفوق الثورة لانها ستقصيهم عن الحكم وستسلم زمام الدولة القادمة الى ايدي غيرهم من ابناء الوسط الغربي او الجنوب. كما ان الحزب الحاكم عمد منذ اليوم الاول في مواجهته لهذه الثورة على تاجيج القبائل حشدها ضد التيارات الحداثية سواء الحزبية او على اساس مناطقي وذلك بتركيز اجتماعات الرئيس مع مشائخ القبائل المحيطة بالعاصمة او توجيه اتهامات مناطقية للقوى الثورية خصوصا في الايام الاولى للفعل الثوري وقد كان رد ساحات الثورة اكثر تصالحا مع هذه القضية اذ يظهر خطاب صعتر في شباب ساحة التغيير ان السلطات تستخدم هذة الورقة لشق الصف الثوري.




ما هي قوة الدفع الثورية؟
تتأتى هذه القوة من اسباب الثورة ذاتها وكذلك قوة وموضوعية اهدافها والتي يمكن ان نوجزها بالاتي
- نموذج ثوري منجز قريبا وفي بلدان عربية وبالتالي عدوى ثورية وتحدي في الارادة الشعبية.
- إنسداد الافاق السياسية للإصلاح والتغيير
- وصول النظام باليمن الى حالة الدولة الفاشلة والحياد عن مشروع دولة الجمهورية اليمنية الموحدة وتحويله الى مشروع عائلي[4]
- السعي لاقامة دولة مدنية موحدة ديمقراطية
- تحول الدولة الى عائق امام التقدم الراسمالي الخارج عن الدوائر المحسوبة على النظام. واستخدام امكانية الدولة لتوظيفها في منافع شخصية ولا تخدم الصالح العام.
- الرغبة الجامحة في استعادة الذات اليمنية المهدورة والمصادرة  واعلاء قيمة هذه الذات
كما تشير ألى ذلك اهداف الثورة وفقا لبيانات اللجنة التنظيمية.

اذن هي توليفة من السخط العام والتذمر من الواقع[5] زائد تطلعات سياسية وهنا ينتقل التذمر والسخط الى وعي سياسي منتظم متمثلا في هبة شعبية ترتكز على تعبئة سياسية اجمعت على هدف اسقاط النظام.

ما هي الثورة لليمنيين؟

في حلقة نقاش حول ربيع الاوطان العربية في احدى المدارس الكبرى في فرنسا اوضح احد المتدخلين ان المجتمعات العربية لا تبحث بالضرورة عن نظام ديمقراطي على النمط الغربي او وفقا للمبادئ السياسية العامة  للديمقراطية لكنها بالمقابل تبحث عن دولة على شاكلة الدولة في اوروبا. اي الدولة التي تكفل لمواطنيها الخدمات الاجتماعية والدولة التي تقوم على اساس عقدي[6].  

كيف فهم اليمنييون الثورة سواء لدى انصار الثورة او لدى من يقفون في الصف المضاد للثورة؟
في صفوف القوى الثورية تتنوع طريقة النظر الى الثورة ومنها:
- تطلعات سياسية تريد استعادة واقامة الحقوق السياسية والاجتماعية للأطراف المشاركة في العملية السياسية
- ضرورة حتمية لايقاف التدهور الحاصل في الجهاز الاداري للدولة وايقاف مشروع السلطنة وكبح الفساد والحصول على الحقوق الخدمية.
- فرصة تاريخية لتحقيق التنمية المنشودة والخروج من دائرة الفقر

بينما ينظر اليها الطرف الاخر من انصار النظام على انها: 
- خصومات تقليدية بين النظام واركانه وانصاره من جهة وعناصر المعارضة التقليدين سواء السياسيين المتمثلين بالاحزاب السياسية المعارضة او الشخصيات الاجتماعية ذات النفوذ التقليدي.    
- الوصول الى مفترق طرق تتقاطع فيه المصالح الاقتصادية والاجتماعية لمن هم خارج السلطة مع النظام واركانه.
- الوصول إلى السلطة خارج صناديق الاقتراع.
- محاولة انقلابية على الشرعية الدستورية التي تفضي بإنتهاء ولاية الرئيس في 2013
- انقلاب على النظام القائم وبدوافع مناطقية من اجل انتزاع السلطة من القائمين عليها


تسلسل تاريخي لاهم احداث العفل الثوري وتحليلها

ينظر البعض الى ان بداية الاحداث في اليمن والتي قادت الى ثورة تعود الى تاريخ 18 يناير 2011 وذلك بحركة احتجاجات كبيرة تتمثل بمظاهرات واعتصامات مطالبة باصلاحات وعدم التوريث او تمديد حكم الرئيس وكانت هذه الحركة كفعل معارض قامت به القوى المعارضة متمثلة باحزاب اللقاء المشترك. على إثرها اعلن صالح في 02 فبراير انه لن يترشح مجددا بعد العام 2013. انطلقت ثورة الشباب اليمنية أو ثورة التغيير السلمية يوم الجمعة 11 فبراير/شباط عام 2011 م الذي أطلق عليها اسم "جمعة الغضب"[7] (وهو يوم سقوط نظام حسني مبارك في مصر) متأثرة بموجة الاحتجاجات العارمة التي اندلعت في الوطن العربي مطلع عام 2011 م وبخاصة الثورة التونسية التي أطاحت بالرئيس زين العابدين بن علي وثورة 25 يناير المصرية التي أطاحت بالرئيس حسني مبارك. قاد هذه الثورة الشبان اليمنيون بالإضافة إلى أحزاب المعارضة للمطالبة بتغيير نظام الرئيس علي عبد الله صالح الذي يحكم البلاد منذ 33 عاماً, والقيام بإصلاحات سياسية واقتصادية واجتماعية. وكان لمواقع التواصل الاجتماعي على الإنترنت مثل فيسبوك مساهمة فعالة في الثورة إلى حد كبير, حيث ظهرت العديد من المجموعات المناوئة للنظام الحاكم بدأت بمطالب إصلاحية ثم ارتفع سقف المطالب إلى إسقاط النظام. ومنها مجموعة " ثورة الشعب اليمني" و "ثورة الشباب اليمني لإسقاط النظام". ولعبت هذه المواقع دوراً كبيراً في تنظيم الاعتصامات واستمرارها، وفي الخروج بالمسيرات. ثم اعلن صالح في 10  مارس عن (دستور جديد) وانتخابات تجرى في بداية  2012. اول مظاهرات نسائية في 12 ابريل في محافظة اب واخرى في العاصمة صنعاء في 18 ابريل. إستمرت الفعاليات الاحتجاجية في الساحات في مختلف المحافظات رافقها سقوط العديد من الضحايا في صفوف المحتجين سلميا بين قتيل وجريح على يد القوات الموالية لصالح وأنصار النظام. قامت السلطات في اليمن  بطرد صحفيين اجانب[8] في 15 مارس.
 و قد كان يوم الجمعة التي عرفت بجمعة الكرامة 18 مارس يوما مفصليا في الثورة اليمنية حيث انضم بعدها الكثير من مشائخ وزعماء القبائل والشخصيات الاجتماعية إلى الثورة بعد أن انضم إليها اللواء علي محسن الاحمر يوم الاثنين 21 مارس[9] بعد تأثره بمذبحة جمعة الكرامة التي راح ضحيتها 52 شهيدا من الشباب المعتصمين السلميين في ساحة التغيير بصنعاء إلى جانب أكثر من 700 جريح بنيران القناصة التي قال المعتصمون أنهم ينتمون إلى الحرس الجمهوري وبلاطجة الحزب الحاكم فيما رد الرئيس صالح أنهم من سكان الحارات المجاورة لساحة الاعتصام والذين تضرروا من المعتصمين[10]. ورغم كمية الاستقالات الرهيبة التي حصلت بعد انضمام علي محسن للثورة إلا أن التباطئ في الزحف للقصر الجمهوري من قبل شباب الثورة أعطى الوقت لصالح لاعادة ترتيب اوراقه ومنها مسارعته إلى حل الحكومة وتكليفها بتصريف الاعمال خشية ان يقدم الوزارء استقالتهم بعد أن قدم ثلاثة وزارء منهم بالفعل استقالتهم يوم الاثنين. لم يحتمل النظام التغطية الاعلامية للاحداث في اليمن وصب غضبة على وسائل الاعلام وعليه اقدمت السلطات على اغلاق مكتب الجزيرة في صنعاء وسحب تراخيص عمل للمراسلين[11]  في 23 مارس. 
ثم اعلن الرئيس صالح في 23 مارس عن استفتاء على الدستور وانتخابات تشريعية ورئاسية قبل نهاية 2011 . في 28 مارس حدث انفجار في مصنع للذخيرة جنوب البلاد تركته السلطات واقدمت مجاميع مختلفة على احتلال المصنع ونهبه لكن الانفجار اودى بحياة الكثيرين. جرى تدخل اقليمي لاحتواء الاحداث في اليمن فكانت هناك مبادرة خليجية تنقذ الموقف وتقضي بخروج الرئيس بعد شهر من تاريخ قبوله المباردة وبعد تشكيل حكومة وطنية ونقل صلاحيات رئيس الدولة الى نائب الرئيس. تحول الفعل لاثوري في اليمن الى اعتصام دائم في ساحات التغيير والحرية والى انشطة اخرى من قبيل الاضرابات والعصيان المدني لكن المشهد السياسي انتقل الى حالة من التفاوض والمراوحة بشأن قبول او رفض المبادرة الخليجية من قبل الرئيس صالح ونظامه من جهة والمعارضة السياسية من جهة اخرى اضافة الى مواقف شباب الثورة. فاعلن الجانب الرئاسي موافقته على المبادرة في تاريخ 23 ابريل إلا ان الاف المتظاهرين استمروا في مطالبتهم برحيل صالح وذلك في اليوم التالي من قبول المبادرة[12]. وبعد مرور فترة من الشد والجذب بشأن المبادرة جرت اول محاولة للزحف من قبل بعض شباب الثورة على مجلس الوزراء 11 مايو[13] ليسقط بذلك عشرات من القتلى بين الشباب العزل في مواجهات مع قوات امنية وانصار النظام المسلحين بعد ان كانت المواجهات قد توقفت في صنعاء على الاقل. في 18 مايو قدرت وكالة الانباء الفرنسية ان ضحايا الاحتجاجات في اليمن يبلغ اكثر من 180. قام انصار النظام في 23 مايو بمحاصرة الزياني رئيس مجلس التعاون الخليجي ودبلوماسيين عرب واجانب في السفارة الاماراتية في صنعاء[14] في اطار جهود دبلوماسية اقليمية ودولية للتوقيع على المبادرة الخليجية بعد ان لاقت هذه المبادرة نصيبها من التعديللتصل الى النسخة الثالثة. فاعلنت على اثر ذلك دول مجلس التعاون الخليجي تعليقها للمبادرة[15]. وفي نهاية شهر مايو ساءت الاوضاع اكثر لتبدأ المواجهات بين جانب قبلي وبين قوات النظام في العاصمة صنعاء بيما تعرضت ساحة الاعتصام في تعز لاجتياح من قبل القوات الحكومية ولم تعرف بعد النتيجة الدقيقة للضحايا وبدات جولة من المواجهات بين جماعات قبلية مسلحة وقوات الجيش والامن تهدف المجاميع المسلحة من ذلك إلى استعادة الساحة وحماية المعتصمين على اثر هذه المواجهات اعلنت المعارضة اليمنية ان المبادرة الخليجية قد انتهت. وتوقفت المواجهات في العاصمة صنعاء في 4 يونيو بعد محاولات وساطة متعددة بائت بالفشل وكان توقفها اثر تعرض القصر الرئاسي في 03 يونيو لقذيفة في مسجد القصر اودت الى اصابة اكبر رموز النظام بما فيهم  صالح الذي نقل اليوم التالي على اثرها الى المملكة العربية السعودية لتقلي العلاج[16] مع غموض حول وضعه الصحي. لتصل بذلك نتيجة الضحايا في هذه الاحداث الى 370 قتيلا.    

من خلال التسلسل الزمني لمسار الثورة مع الوسيلة المتبعة وصولا الى حلقة المواجهات المسلحة كاحدى حلقات العمل الثوري وانتهاءا بحادثة القصر الرئاسي يتبين ان المواجهات لم تطرأ إلا منذ نهاية شهر مايو وهي قياسا بالمدة الزمنية للفعل الثوري الذي تشكل في النصف الاول من شهر فبرير لا تمثل اكثر من واحد الى ستة.  وهنا نستنتج التالي:

- اهمية الفعل الثوري في انه جمع حشود جماهيرية في لحظة كان الشارع اليمني يمتاز بغياب القيادة. بدليل ان المعارضة تفاجأت بهذه الهبة كما هي مفاجأت النظام[17]. وهذا يعود في تقديرنا الى ان القوى الثورية المتواجدة حاليا في الساحات لم تكن قبل هذا الحدث ثورية. ربما كانت اسباب الثورة قائمة ولكن لم تكن الثورة متوافرة كنهج.

- تتبع المدة الزمنية للفعاليات السلمية في الفعل الثوري مقارنة بمدة المواجهات التي جرت على مقربة او ضد ساحات الثورة حيث بدأت المواجهات بين اتباع الشيخ الاحمر والقوات الحكومية في 3 يونيو 2011 بينما تمسكت القوى الثورية بالسملية منذ بداية نشاطها الثوري[18].

- اصرار القوى الثورية على العودة الى الساحات بعد انتهاء المواجهات مع القوى الحكومية او بعد حسم الامر لصالح انصار الثورة كما هو الحال في محافظة تعز وهذا يمثل تمسكا كبيرا بسلمية الثورة او ادراكا من القوى الثورية باهمية النضال السلمي[19]  وابلغ من ذلك هو تأني المجاميع القبلية والمسلحة في هذه المحافظة في الرد المسلح على القوات الحكومية بعد اجتياح هذه الأخيرة لساحة الحرية في تعز.


- هناك نقطة اخرى من الاهمية وهي تصريحات القوى القبلية او العسكرية المناصرة للثورة وتمسكها بمناصرتها السلمية للثورة ويتجلى هذا من خلال بيان الجيش المنشق عن النظام يوم 21 مارس وتاكيد على دعمه السلمي كما ان قوات الفرقة في صنعاء لم تنجر الى اي رد فعل عسكري تجاه ما كانت تتعرض له من تحرشات او اعتداءات خصوصا اثناء المواجهات بين القوات الحكومية واتباع الشيخ الاحمر. وكذلك من خلال التصريحات المتتالية للشيخ صادق الاحمر وحتى تصريحاته بعد وقف المواجهات بين اتباعه وبين القوات الحكومية في شهر يونيو. 

بالنسبة لابناء القبائل في المحافظات المحيطة بصنعاء فان القبائل اكتفت بمحاصرة قوات الحرس الجمهوري وشل حركتها التي كانت تحاول التحرك الى أماكن أخرى لفرض السيطرة او الدخول في مشهد المواجهة رغم تعرض مناطق القبائل للقصف العنيف بما في ذلك استخدام قوات الجو خصوصا في منطقة نهم وارحب.


في هذه المرحلة هل تفكر القوى الثورية بمواصلة فعلها الثوري الذي كانت تهدد به ويقصد ذلك الزحف والاستيلاء على جهاز الحكومة ام انها توصلت الى قناعة ان جهاز الدولة من خلال المسميات التقليدية لا يمثل النظام المطلوب الاجهاز عليه لانها اختزلت وجهة الخصومة بان تطال الرئاسة ذاتها. واستجابة ضمنية للمبادرات الخارجية التي تريد الاخذ بيد الثورة نحو نهاية ما ليست بالضرورة النهاية المرومة من قبل القوى الثورية؟ ثم كيف ستتعامل مع التركة الكبيرة للنظام ويقصد بذلك الاجهزة الامنية والمؤسسات العسكرية التي ما تزال بيد اركان النظام اضافة الى القدرات المادية والقدرة على الحشد وتسخير الاموال من اجل كبح المد الثوري واعاقته او تكوين جبهة مضادة قادرة على كسر شوكة الفعل الثوري؟

يعتري الفعل الثوري في المرحلة الراهنة بعد خروج صالح لتلقي العلاج حالة من السكون والتركيز على المكاسب السياسية للثورة وذلك من خلال تمكين نائب الرئيس من الصلاحيات وتشكيل مجلس انتقالي وهنا تقف القوى الثورية محاصرة بمجموعة من الفاعلين المحليين والدوليين وكل يملك ادواته الخاصه للتحرك وربما لا تملك القوى الثورية من خلال ادواتها التي استخدمتها منذ بداية الثورة حتى الان فرصة كبيرة للمناورة والضغط في حين ان عليها ان تكون الاكثر حضورا في المشهد كي تمرر اهدافها. 

يبدو ان القوى الثورية خصوصاً القوة السياسية قد انسوا الى المبادرات او على الاقل فحوى المبادرة الخليجية وسيسمحون لها بان تمر.  كما ان التشخيص الممكن لما يجري في ساحات الثورة هو الولج في جدل ناتج عن اجترار موروث القضايا السياسية التاريخية نحو قلب الفعل الثوري وبالتالي وقف الماضي عائقا دون الاشتغال على الحاضر وغاب التفكير بالمستقبل. وهذه مرحلة حرجة لان الماضي لا يوفر شرعية مريحة لكثير من قوى الثورة. لكن التساؤلات المتداولة بين الصفوف الثورية تدل على احقية الثورة كحدث تاريخي وعلى شعبيتها ورغبة المشاركين فيها على الخروج بثورة متعالية على مساوئ الماضي وان كان ذلك باثارة السؤال حول شرعية القوى الثورة عينها. 

غير ان ما ينبغي فعله هو الاصرار على المضي بالثورة الى غايتها وتفعيل اشكال النضال الثوري وتصعيد هذا العمل لتحقيق الاهداف  فلا تكون القوى الثورية الشبابية اداة لا اكثر بيد المكونات الاخرى المحلية والدولية. والاهم من ذلك عدم تفويت فرصة هذا التغيير التاريخي.


نقطة الوصول

عوامل نجاح الثورة هي قدرتها على التحول من الحدث الصاخب الى التوافق مع مصالح شرائح اجتماعية وسياسية كبيرة. قدرتها على تحقيق اعلى قدر من التصالح بين القوى الثورية وتشكيل حوار وطني على قاعدة شعبية عريضة كفيل بتجاوز صراعات الماضي وقادر على حشد الطاقات من اجل البناء. وكذلك قدرتها على خلق تحول اجتماعي وثقافي يعزز التحولات السياسية المنشودة او التي شرع العمل بها. 

تنشد الثورة مجتمعا مدنيا ديمقراطيا لكنها لا تحدد تفصيلا ابعاد هذا المجتمع مع انها تتحدث عن الادوات المؤسسية التي ستنفذ هذا الوعد ونقصد بذلك اعادة هيكلة المؤسات الامنية والعسكرية. اقامة نظاما برلمانيا. التعددية الحزبية وما الى ذلك...

في كتاب الاصول الاجتماعية للديكتاتورية والديمقراطية يقترح المؤلف ثلاثة اشكال للوصول الى المجتمع الحديث وهي خلاصة تجارب بشرية وهي الثورة البرجوازية التي ادت الى تطور الرأسمالية والديمقراطية البرلمانية (فرنسا، امريكا). السبيل الثاني كان برجوازيا ولكن بادوات راديكالية وفي غياب موجة ثورية قوية وانتهى بالفاشية ويقصد بذلك الثورة من اعلى كم هو النموذج الالماني قديما. والسبيل الثالث هو النموذج الشيوعي[20].

ما هي عوائق الديمقراطية اذن هل هي القبيلة ام الجماعات الدينية ام الطبقة الراسمالية التي كونت تراكمات راسمالية لكنها لم تطور ثقافة راسمالية تهتم بالتنمية وتساعد على تطور الحقوق والمنظومة القانونية لانها تعودت على الاقل لفترة تزيد عن عقدين من الزمن على الاشتغال خارج القانون ضمن تحالف كبير للكارتل التجاري والنظام السياسي[21] وصولا الى انخراط اركان النظام السياسي في العمل التجاري والاستثمارات بعد استخدام المال العام للاغراض الشخصية.

يرى الدكتور عادل الشرحبي في دراسة له حول ازمة التحول الديمقراطي في اليمن ان ازمة التحول الديمقراطي تكمن في جزئية التحولات الاجتماعية وعدم شمولها وكان ذلك من خلال افراط التغييرات السياسية مع اهمال جوانب التحولات الاجتماعية والثقافية وانه تحول كانت تقوده قوى اجتماعية تقليدية وتوجهها ثقافة شمولية.
ويهمنا هنا التذكير بالطريقة التي ادار فيها الحزب الحاكم في اليمن الدولة وذلك من خلال مصفوفة تحالفات مع القوى التقليدية واصحاب الرساميل على حساب اسس بناء الدولة الحديثة اذ تم تبني نهج زبوني[22] في التعامل مع الشأن العام وفق الية توزيع الريع من اجل البقاء في الحكم.

ويحدد الدكتور عادل الشرجبي مجموعة مبادئ لضمان هذا التحول منها اصلاح الادارة العامة باعادة تاهيل المؤسسات العامة وذلك بالفصل بين الحزب الحاكم والدولة، اضعاف هيمنة القوى التقليدية في الريف على اجهزة الدولة ومؤسسات الحكم المحلي، استكمال فرض هيمنة وسيادة القانون على النطاق الاجتماعي والجغرافي، مكافحة الفساد واصلاح النظام الانتخابي للانتقال من ديمقراطية الانتخابات الى ديمقراطية المشاركة، وفي الاخير تعزيز مكانة البرلمان في الحياة السياسية ودوره الرقابي[23] 3.ص. 124-129 

مآل الثورة

المسارات التي تختطها الثورة اليمنية للوصول الى الديمقراطية وحكم الدولة المدنية في ظل تكوينها الاجتماعي وبنيتها السياسة والبعد الاقتصادي يطرح تساؤلات اساسية في قراءة مآل الثورة وامكانية الانزلاق الى مربع العنف من قبيل :
هل يمكن لمشائخ كبرى القبائل القبول بدولة مواطنة تلغي عنهم الامتيازات الاجتماعية بل والاقتصادية والسياسية التي رسخها نظام صالح[24]؟ وهل سيقبل الحوثيون بدولة لا تمنح امتيازات تقوم على البعد الديني أو"السلالي"؟
ثم ماذا عن المؤسسة العسكرية المناصر للثورة وما هي الحصة التي ستطالب بها عقب نجاح الثورة لقاء دورها في حسم الثورة والقضاء على صالح ونظامه؟


التساؤلات هنا تركز على الاستعدادات والتي تبدو انها لا تمثل تعارضا مع سقف طموحات شباب الثورة وهذه المواقف يتم الاعلان عنها مرارا والتاكيد عليها من قبل المؤسسة العسكرية المتمثلة بالجنرال علي محسن او من قبل صادق الاحمر.

 ناهيك عن انه من الممكن الحكم على  الثورة حتى هذه المرحلة بانها انجزت تحولا ثقافيا يقود الى وعي سياسي لدى افراد المجتمع اليمني وعلى افراد القبائل ومشائخهم ايضا. فمثلا كان المجتمع اليمني يعيش حالة عزلة وانقسام راسي وافقي. فالعزلة تأتت من القوالب الذهنية التي كانت تروج عن كل فئة او جماعة او منطقة وهنا كانت كل منطقة تدعي تفوقا لا مبرر له على اخرى وتقوم هذه الفوقيات على اسس جغرافية بالدرجة الاساس وهذه تعد من اشكال الانقسام الافقي ام الانقسام الرأسي فكان يتمثل في نمو طبقة سياسية واقتصادية  طفيلية بطبعها تعتمد على النظام الزبائني المتبع من قبل النظام وبالتالي طبقة اجتماعية ايضا وفقا للمعطيات السابقة على اعتبار من اقترب من المناصب الحساسة والمدرة للدخل لدى الدولة يمكنه ايضا ان يبني مجده الاجتماعي. ولهذا حدث شرخ في المجتمع اليمني بلغ منظومة القيم ذاتها. ولم تسلم ايضا القبيلة من هذا التشوه[25] وكذلك استبدلت معايير النجاح ولم تعد الانتاجية والكفاءة من المعايير.

لكن ساحات الثورة فتحت افاقا جديدة وجمعت افرادا من مناطق عديدة ومن تيارات فكرية ومذهبية متباينة ايضا كانت فيما سبق على عداوة لكنها تقاربت وتعارفت. الابلغ من ذلك اننا نجد على نحو ملفت شغف افراد القبائل على تناول الصحف والخوض في جدالات سياسية بمفردات سياسية وقانونية بحته وهذا يعد اثراءا للثقافة العامة.

ولكن على اعتبار ان التحول الديمقراطي مرهون بالتحول الاجتماعي والثقافي فانه من الصعب في الوقت الحالي قياس التغيير الثقافي المحفز للديمقراطية خصوصا لدى مشائخ القبيلة لان اللحظة الراهنة لم تقدم اكثر من خطاب عام ولم يتم الانتقال الى المرحلة اللاحقة من الثورة وهي وضع الاهداف موضع التنفيذ وبالتالي تعارض مبدأ المساوة امام القانون مع المكانة الاجتماعية للمشائخ مثلا او تعارض فهم الليبرالين للدولة المدنية مع الجماعات الدينية او المحافظة. ولكن هناك بعض مؤشرات منها ان الثورة قامت على اساس السلمية وكان الجميع حريص على هذا المبدأ. بينما تم إجبار اولاد الشيخ الاحمرللتخلي مؤقتا عن هذا المبدأ وانجروا الى الشرك الذي وضعه لهم النظام بان استجابوا للمواجهات المسلحة من باب الدفاع عن النفس. في حين ان هذه الاستجابة لم تلهيهم عن الثورة ومبادئها وبالتالي اعلنوا ان هذه المواجهات لا تمس الثورة وسلميتها بشيء. واكثر من ذلك دلالة هو قبولهم بتطبيق الهدنة ولو من طرف واحد في بعض الاحيان ايثارا لنجاح سلمية للثورة.
بينما هناك مشاهدة اخرى تمثل صدمة للمتابع للامر وهي ان ابناء تعز وبعد ان تعرضت ساحتهم لاعتداء غاشم استجابوا هم ايضا للمواجهات مع قوات النظام وبدأ الحديث عن قبائل تعز واستخدامها للسلاح من اجل حماية ساحات الثورة السلمية. وهذه نقطة لم تكن منتظرة على اعتبار ان هذه المدينة كانت تقدم نموذجا للفعل الثوري السلمي[26].

في الحديث عن الثورة ينبغي الحديث عن اطراف الثورة سواء انصارها او معارضيها وبالتالي الحدث عن طرفي المواجهة وهنا يلزم التذكير بان مناهضي الثورة من القدرة والعدد بمكان لا يمكن تجاهله بل ان هناك شبكة مصالح تربطهم ولن يتخلوا عنها بسهولة . وربما كان هناك سوء تقدير من قبل القوى الثورية لقدرة الطرف المناهض للثورة على ان الثورة قدمت انتصارا اخلاقيا بسلميتها وانها مثلت استعادة للذات اليمنية وصهرا للمكونات الاجتماعية لليمنيين وان كانت المسالة نسبية بل واستردت امل التغيير وتحقيق الافضل.

وعليه فان الثورة بانتصارها ستحدث انقساما على صعيد المناصرين ومن خلال توليفة هذه القوى وتباين ايديولوجياتها ومنطلقاتها وسنجد فرزا حادا بين قوى اليسار والليبرالين من جهة وبين القوى التقليدية والمحافظة والجماعات الدينية من جهة اخرى. ومن ناحية اخرى سنجد في المقابل مقاومة شديد تحول دون التغيير يقوم بها انصار النظام ومن كانت لهم مصالح كبيرة سواء سياسية او اجتماعية واهم من ذلك مصالح اقتصادية.
على ان التدخلات الخارجية قادرة على ان ترجح كفة طرف او اخر خصوصا وان هناك من يساند التغيير في اليمن ويدعم التحول الديمقراطي ولو بجرعات معينة وهناك من يفهم ضرورة التغيير ولكن لا يريد السماح لهذا التغيير ان يمر دون ان تكون له القدرة على السيطرة عليه وتحديد مساره وافاقه.

نجاح الثورة مرهون اذن بعدة اشياء هي في تصورنا:
- تصور نموذج اداري بديل للحاصل وقدرة القوى الثورية على ابتكار اليات لتعزيز النجاح السياسي واستنهاض الثورة الادارية.
- الوقوف على الوضع الحالي واعادة تشخيصه لمعرفة العوائق واستلهام وسائل تجاوزها.
- مقدرة الثورة على تحويل الاهداف الى برامج تؤسس للوائح ادارية وناظمة للحياة السياسية.
- استكمال الافكار الثورية لبناء فلسفة ثورية تقود الى عقيدة ثورية تدافع عن البرامج التغييرية وقطع دابر اي حرب حتى يتسن العمل من اجل الاعمار والتنمية.

لكن السؤال عن استمرارية الثورة يتطلب معرفة قوة الدفع للثورة وهي كما اوجزناها انفا بان مجموع من سخط عام وتذمر اضافة الى تطلعات سياسية. "إن الأصول الثابتة تندفن وتنفصم، وتظل تغصن بمجرد شم روائح المطر، وذرور وجه الربيع، فالأصول دائمة الايراق والإغصان اما العوارض فتنقرض [...] اما الاصول فتتشبث بخلود الأرض، لكي تصعد منها فروع تتأصل فتصبح اصولا لسواها.. قد تغايرها وقد تجدد تياراتها[27]".
بالتالي فان الوعي الثوري وطابع الثورة واصالتها وحاملها الشعبي هو ضمان استمرارية الثورة لكن الاستمرارية مرهونة بالنجاحات التي تحققها الثورة تباعا. وهذه النجاحات تكمن في مقدرة الثورة على احداث هزة اجتماعية لتحريك ركام من العادات والتقاليد. ومقدرتها ايضا على خلق تحول ثقافي يشمل ايضا التحول الثقافي فيما يخص الادارة العامة. 


ويعتمد نجاح الثورة واستمراريتها على ثلاث مرتكزات هي: الثورة وفلسفتها، الثوار وعزيمتهم والمناخ العام. على اعتبار الثورة هبة شعبية فان هذه الهبة في اليمن لم تكن آنية لانها اثبتت من الصمود ما يزيد على اربعة اشهر وطالما واسباب قيام الثورة قائمة فان الثورة مستمرة هذا لان زوال النتيجة مرهون بزوال المؤثر وعليه يمكننا القول بحتمية استمرار الثورة طالما وعناصرها هي الواقع المتمثل بالانسان والمناخ العام وسرعة عدوى التغيير في العالم. وهذه النقطة الاخيرة تتيح لنا التفاؤل باستمرار الثورة لانها تزامنت مع قيام ثورات اخرى في اقطار عربية ونجاح اي من الثورة الليبية او السورية سيمثل عامل خروج من هذه المراوحة بل وسيزيد من الوهج الثوري في اليمن.  


ماذا صنعت الثورة ؟

- الثورة حققت الثورة كحدث تاريخي وواصلت ثوريتها وشعبية قواعدها وشرعية وجودها"[28]

- عبر وسائلها السلمية استطاعت الثورة كسر حاجز الخوف لدى العامة واخراج الكتلة الصامتة ودفعها نحو فعل احتجاجي جماعي وبالتالي خرجت الناس من دواوينها ومن فائض الجدل في القضايا المعيشية والسياسية نحو فعل منظم وضاغط وحضاري في آن.

- عرفت الناس من خلال الفعل الثوري حقيقة هذا النظام وعرّت فساده واجهزته الامنية والعسكرية  والاستخباراتية منها على وجه الخصوص. فمثلا كان الامن القومي خطا احمرا لا يتم الحديث عنه الا همسا بينما اضحى اليوم موضع تساؤل حول شرعية وجوده, وبات من الضروري عليه ان بقي في الايام القادمة ان يعيد تقييم علاقته بالعامة وان يعيد تعريف مهامه.

- خرجت الناس بهذه الحشود ومن كافة الشرائح العمرية ومن مختلف المناهل الفكرية والمذهبية ايضا واهم من ذلك التواجد النسائي وهو بمثابة هزة للموروث الاجتماعي الجامد ويعد تكاملا عضويا بين الثورة كاهداف وقيم مجردة وبين جسدها المادي المتفاعل. لذا فان المرحلة القادمة ستشهد تفاعلا سياسيا عاليا وزخما كبيرا في اي عملية انتخابية تنظم في البلاد وفق قانون انتخابات متوازن ناهيك عن التزام الناس بالتغيير والسعي اليه.

- يعد التمسك بمدنية الدولة انتصارا كبيرا للحداثة على الجمود والتقليد ورغبة خالصة في التخلص من رواسب الماضي. 

- تمثل الاهداف التي اعلن عنها شباب الثورة نسقا فكريا متجاوزا طريقة التفكير التي يمضي عليها النظام ولهذا فانها تؤسس لفلسفة مرحلة جديدة اكثرا ثراءا وحاضنة للابداع.

- نجحت الثورة في قطع هذه المساحة الزمانية وبالتالي اوجدت لها عمرا لا يقاس باليوم وانما بمجموع ايام كل الشباب المرابطين في الساحات او في منازلهم او مقار عملهم.

- وفرت الثورة رافعة شعبية واسعة تقوم على رفض القائم وتنشد الافضل، ليس هذا فحسب، بل ان هذه الرافعة الشعبية كانت وراء تشجيع التجار وضباط الجيش والامن وكبار مسؤولي الدولة على التحاقهم بصفوف الثورة كما انها لم تبخل على الثورة بان قدمت تضحيات جليلة من شهداء وجرحى ومرابطة وتحمّل هذا الظرف الصعب والبقاء على اطراف الاعصاب لقرابة اربعة اشهر.

- قبل الثورة كان الجدل في الشأن العام والسياسية بالذات يتم بين طرفين فقط هم النظام او الحزب الحاكم و المعارضة السياسية بينما بعد الثورة تم اجتراح طريق ثالث ورابع وصار الشباب رقما هاما لن يتم تجاوزه لانه كبير بحجم طموحات الثورة.

- اسقطت الثورة معظم المخاوف التي كان النظام يسوقها محليا ودوليا من قبيل تهديدات للامن والاستقرار على شاكلة ارهاب او قاعدة او انفصال او احتراب اهلي وتمرد القبائل وصار الجميع يعرف ان التهديد الحقيقي للامن والاستقرار هو استمرار النظام لانه المصدر الحقيقي للمخاوف التي كان يدعي انه يكافحها.فلقد خفت حدة المطالب الانفصالية وانظم الحوثيون الى الثورة السملية وساندوها.... 

- اطلق الفعل الثوري الكثير من الطاقات الابداعية والخلاقة وذلك بتوفير فضاء مفتوح لورشات فنية وفكرية. كما نتوقع ارتفاع عدد مستخدمي الانترنت في اليمن وزاد عدد منتسبي المواقع الاجتماعية خصوصا الفيسبوك.

- توافرت علاقة تعاضد بيني لدى ساحات الثورة في الجمهورية فكانت كل ساحة تنفذ فعالية تضامنية مع ساحة اخرى تعرضت لعملية قمع. وتعززت اللحمة الوطنية ومثال ذلك اقامة احتفال شعبي بعيد الوحدة اليمنية لم يتم انفاق مبالغ كبيرة عليه واحتفل الشعب بوحدته بعيدا عن بهرج الاحتفالات الرسمية.
 - كانت المظاهرات فيما سبق لا تدوم لاكثر من وقت الظهر اذ ينفض الجمع نحو اسواق القات وبحثا عن الغداء لكنها مع الفعل الثوري كسرت هذه الصورة النمطية اذ يخرج الشباب في مظاهرات بعد العصر واحيانا ليلا.

بين الثورة والعنف

بالنظر الى اسباب قيام الثورة ومكونات القوى الثورية والوسائل التي تبنتها هذه القوى الثورية اضافة الى الاهداف المعلنة لهذه الثورة فاننا نستطيع القول بان الثورة السلمية التي يتمسك ثوارها بهذا الهدف رغم كل محاولات جرهم الى مربع العنف لا يمكن لها ان تتحول الى عنف او ارهاب. والسبب في نظرنا هو ان شبح الحرب الأهلية بات مستبعدا كليا على الاقل من جهة الطرف الثوري. لا يمكن لثورة تنشد الحياة وتنتهج السلمية ان تنقلب الى فعل مضاد وتنقاد نحو العنف، هذا من ناحية.
كما ان المدة الزمنية التي قطعتها الثورة في سبيل النضج واكتمال التكوين ساهمت في خلق انقسام او فرز اجتماعي عريض لمناصري الثورة ومناهضيها وهنا تشكلت مجموعة تحالفات فوتت الفرصة لاي حرب اهلية ان تنشب وبات من الواضح جدا ان الطرف الوحيد القادر على دفع البلاد الى حرب او دمار هو النظام الحالي فقط. فلقد تخلت معظم الاحلاف التي كانت مع النظام وتساقطت الاوراق التي كان يمسك بها والتي كانت تمثل اسباب بقائه وانظمت الى صف الثورة والتزمت الحياد ونأت بنفسها بعيدا عن القتل والتخريب حتى وجد النظام نفسه محاصراُ واصبح يرتكز على جانب المؤسسة العسكرية التي بقيت في صفه والمؤسسة الامنية. وكانت دائرة العنف من افتتاح النظام نفسه كطريقة للهروب الى الامام لكنها دائرة عنف محدودة يمكن السيطرة عليها ولم يتمكن النظام من كسب هذه المعركة لانها اسأت اليه وكان ضررها عليه اكثر من نفعها خصوصا بعد ان تشكّلت قناعة لدى الكثيرين بان النظام لم يعد يمثل مصدر استقرار او قادرا على تقديم النفع العام.

ربما يكون العنف الدائر هو حلقة من حلقات الثورة السلمية على اعتبار انه حلقة مكملة لا يمكن ان تحل محل السلمية كنهج لتأصل هذا الاخير ولانعدام امكانية الاقتتال لفترة طويلة رغم توافر السلاح ولكن ما دون الدفاع عن النفس فان القتل عمل مجرّم لدى كافة اطياف الشعب فضلا عن غياب الاسباب العقائدية للشروع في حرب مفتوحة بين اليمنيين.

وبينما لا يستطيع آلان جريش التنبوء بمستقبل الثورات العربية فإنه يرفض التشاؤم ازاء مستقبل هذه الثورات بالرغم من المعوقات والتهديدات التي يتنبأ بها المراقبون للاوضاع العربية فان الحشود الجماهيرية تتعاظم وتنتشر في الاقطار ولذا فهو تشاؤم يرتكز على نظرة شاعرية للثورات قصيرة الامد التي لا تعرف الانزياح ولا العودة الى الوراء ولا العنف وهي ثورات لم يعرف لها التاريخ امثلة اذ ان الطابع الخاص لكل الحقب الثورية هو المواجهات والعنف والتردد عندما يسقط نظام بائد ويجاهد نظام جديد على الثبات[29].

نقطة اخرى تنفي امكانية الدخول في حرب اهلية هي اتساع وتشعب شبكة المصالح التي تربط اليمنيين في اطار جغرافيتهم. اذ عملت العشرون سنة الماضية من عمر الوحدة اليمنية على فتح اسواق ومنافع لليمنيين بين المحافظات ولهذا فان الفصل بين ابناء المناطق ليس بهذه السهولة.
                                                                           
اضافة الى حرص الاطراف الاقليمية والدولية على الاستقرار في اليمن لما يمثل من اهمية لاستقرار المنطقة وكذلك تفادي حدوث بؤر نزاعات واضطرابات لها تاثيراتها الاقتصادية العالمية وعلى السياسات الداخلية للقوى الدولية خصوصا ما يتعلق بالانتخابات في هذه البلدان. وعليه فان احتمالية الانزلاق في حرب اهلية تعد ضئيلة في نظرنا لان هناك تجانس نسبي وكبير بين مكونات الثورة كما ان هناك تفهم اقليمي ودولي لضرورة التغيير.


خاتمة
  
في الاخير فان الثورة اليوم بلغت مرحلة نالت فيها شرعية شعبية واثبتت حضورها واحقية وجودها وبدأت تحصد نجاحات متتابعة لكنها لم تصل بعد الى غايتها في تخليص البلاد من النظام السابق وقيام دولة مدنية ديمقراطية فخروج صالح بهذه الطريقة لا يمثل نصرا سياسيا كاملا وان كانت الثورة سببا – مباشرا او غير مباشر - في خروجه كما ان اركان النظام المتصلبة لا تزال تمسك بمفاصل البلاد وهي وان كانت غير قادرة على ان تحكم لكن قدرتها على احداث الضرر كبيرة. فالثورة ما تزال تواجه تحديات كبيرة، علما بان المناخ العام لا يؤيد قيام ثورة كاملة لان القوى المناهضة للثورة سواء المحلية او الخارجية ستعمل على توطيد اركان حكم بلا ثورية لكن الثورة اصيلة وقوتها الدافعة هي الشباب والاجيال القادمة.

كما ان اي خطوة تصالحية لن تكون إنهاءً للثورة بل ابتداءً لها. على ان التهديد الحقيقي للثورة من داخلها يتمثل في توارث اخطاء الماضي وذلك باستمرار منطق العداءات والولاءات واجترار لغة الاقصاء والتهميش والسير بلا برنامج واضح والافتقار لمبادئ صريحة يتم من خلالها تقييم المواقف خصوصا بعد ان تداخلت التحالفات وتشابكت الخصومات وصار الاصدقاء اعداء والاعداء اصدقاء.

ان الحياد عن الثورة وتحجيم هذا الحدث الى ازمة سياسية فقط او مطالب اجتماعية او اقتصادية ناهيك عن الانجرار نحو الحرب يمثل ضربة في مقتل لهذه الثورة. 

كما ان الصراع المحتمل لن يكون بين مكونات اجتماعية مفتوحة وانما بين انصار نظام يرتكز على المؤسسة العسكرية والامنية بدرجة اساسية وبين بقية شرائح وفئات الشعب اليمني. وهذه واحدة من مكاسب الثورة اذ عملت من خلال الامتداد الزمني لها على فرز الانصار من المناهضين للثورة تباعا وبالتالي كانت اهم القوى المؤثرة اجتماعيا وسياسيا في صف الثورة. يقصد من ذلك طرف في الجيش وغالبية القبائل.

درب الديمقراطية في اليمن صار مرسوما لكنه محفوف بالمخاطر وامكانية الانزلاق باعتبار الديمقراطية رهان ثقافي اجتماعي يقود الى تغيير سياسي او عملية متكاملة بين هذه العوامل على ان البعد السياسي يمكن ان يصبح حاملا لبقية الابعاد اذا كانت القوى التي تنفذه متشبعة بالحداثة وتؤمن بالتغيير. إلا ان ما حدث ليس بالامر البسيط فهو خطوة هامة وان كانت قصيرة لكنها وبالنظر الى التعقيدات ووعورة المناخ الذي سارت فيه العملية الديمقراطية في السابق تعد خطوة تقود الى اخرى.


ادت الثورة الى انفسام حاد في المؤسسة العسكرية وومؤسسات الحكومة والسلك الدبلوماسي وهذا يدل على ان النظام لم يتمكن في الفترة الماضية من خلق ولاء تام في هذه المؤسسات بل بقيت عرى التواصل والترابط بين الشعب ومؤسسات الدولة.

كشفت الثورة عن جاهزية القوى السياسية في المعارضة والحاكم نحو ادارة رشيدة للامور وقدرة على الخروج من الازمات، وان كانت جاهزية متدنية في رأينا نظرا لتعقيدات الواقع وهشاشة المؤسسات.




[1] عبد العزيز المقالح. من الانين إلى الثورة. دار العودة. بيروت. ط1 1988. ص 33
[2] يلزمنا ان نتحفظ على مفردة نخب فكرية هنا وربما يذهب قصدنا الى نخب متعلمة وجامعية في الاساس لان هذه الثورة ليست تجسيدا لفكرة ايديولوجية معينة انشأ قوامها النظري مجموعة ما او شخص ما ولكنها ثورة نتيجة لمطالب اقتصادية وسياسية مباشرة.
[3] من مقابلات شخصية مع بعض الشباب.
[4] هشام القروي. ثورة اليمن: استبدال على عبد الله صالح ام استبدال مؤسسات مفوّتة؟ المركز اتلعربي للابحاث ودراسات السياسيات. 02.05.2011
[5] اذ تشير كل البيانات التي تمدنا بها وسائل الاعلام او المنظمات الدولية الى مؤشرات مفزعة في التنمية ( ارتفاع معدلات البطالة الى 50% http://www.aljazeera.net/NR/exeres/7C049051-6586-45C0-AC43-7C3D8AC8133E.htm.
وفي سوء الادارة وتحتل اليمن مرتبة متدنية في موقعها بين الدول فيما يتعلق بالتعليم و الفساد و الاضطرابات كما يظهر في القائمة التي تقدمها بي بي سي عن معظم البلدان العربية http://www.bbc.co.uk/arabic/middleeast/2011/02/110218_middleeast_countries_protests.shtml
كما ان المعلومات العامة عن اليمن من القتامة بمكان فهي في بعض المصادر: السكان : 24.1 .  نسبة من تقل اعمارهم عن 25 سنة 65% . متوسط اجمالي  الدخل السنوي للفرد:  1118دولارا . مستوى التعليم للسكان:  61%.  مستوى التعليم لمن هم بين 15 -24 سنة: 83%. . معدل الفقر ممن يعيشون على اقل من دولارين في اليوم:  58% .  نسبة المراة من السكان النشطين: 21%  وتاريخ توسيع حقوقها السياسية:  1970. معدل مستخدمي الانترنت لعام 2008 :  1.6% .

[6]طاولة مستديرة حول الربيع العربي ادارها المذيع ومسؤول الشرق الاوسط في احد القنوات الفرنسية تيريه غارسان في نهاية مايو من هذا العام في المدرسة الوطنية للادارة.
[7] جمعة غضب باليمن اليوم. الجزيرة نت. http://www.aljazeera.net/NR/exeres/1416B3C0-2E7A-412B-ACD6-3751FA39020A.htm
[9] قادة بالجيش اليمني ينحازون للثورة. الجزيرة نت. http://www.aljazeera.net/NR/exeres/3E7EB840-DCDF-45D2-BA16-42448765E85D.htm?GoogleStatID=9
[12] صالح يقبل الخطة الخليجية . الجزيرة نت.

[13] www.alkhaleej.ae/.../ffb4ccb5-1e62-460e-b46b-ed06f0d435f5.aspx
[14]  دول الخليج تعلّق المبادرة بعد رفض صالح التوقيع. http://ksa.daralhayat.com/ksaarticle/269896
[15]  دول الخليج تعلق المبادرة اليمنية وتأسف لمحاصرة سفارة الامارات بصنعاء. http://www.sabq.org/sabq/user/news.do?section=5&id=24485
[16] صالح يعالج بالسعودية وهدنة في اليمن. الجزيرة نت. 
[17] هشام القروي. ثورة اليمن: استبدال على عبد الله صالح ام استبدال مؤسسات مفوّتة؟ المركز العربي للابحاث ودراسات السياسيات. 02.05.2011
[18] على عبد الله صالح أواستراتيجية الفوضى. تحليل بالفرنسية لحبيب سروري وفرانك مارمييه. صحيفة اللوموند 03.يونيو 2011  http://www.lemonde.fr/idees/article/2011/06/03/ali-abdallah-saleh-ou-la-strategie-du-chaos_1531743_3232.html.
[20] انظر الاصول الاجتماعية للديكتاتورية والديمقراطية. بارينجتون مور. ترجمة أحمد محمود. المنظمة العربية للترجمة، بيروت.ط 1. 2008 .
[21] يحيى صالح محسن. خارطة الفساد في اليمن، المرصد اليمني لحقوق الانسان. صنعاء. 2010. ص 82.
[22] على عبد الله صالح أواستراتيجية الفوضى. مرجع سابق
[23] عادل الشرجبي. ازمة التحول الديمقراطي في اليمن. مؤسسة العفيف الثقافية. صنعاء 2006. ص 124 -129
[24] القصر والديوان، الدور السياسي للقبيلة. عادل الشرجبي (وآخرون). المرصد اليمني لحقوق الانسان. صنعاء. 2009.
[25] انظر القصر والديوان. مرجع سابق. 
[27] عبد الله البردوني. الثقافة والثورة في اليمن. 1992. ص 62
[28] عبد الله البردوني. اليمن الجمهوري. ط 6 2008. ص 417
[29] آلان جريش. هل انتهت الثورات العربية. بالفرنسية. من مدونة مجلة لوموند دويبلوماتيك. 13 يونيو 2011.

الحب بين علم الاعصاب والعلوم الإنسانية

الحب بين علم الاعصاب والعلوم الإنسانية (مقال مترجم من الفرنسية) ترجمة مصطفى ناجي الجبزي افتتح في شهر أكتوبر من العام المنصرم معرض استث...