الاثنين، 26 مارس 2012

صيغتان للموت لا اكثر


صيغتان للموت لا أكثر!
مصطفى الجبزي
24 مارس 2012

بعد صلاة الجمعة، احتشدنا حول مائدة الغداءـ كلٌ يعد يده ليهجم على الاطباق. الأم الحنونة تتفقد أبناءها.
 - هاه من باقي؟ محمد اينوه؟
عبر الهاتف يجيب ابنها محمد أن اشرعوا في الأكل فأنا لا زلت في مراسم دفن.
يجلس إلياس على الدرجة الثانية من السلم، يتمترس خلف زجاج نظارتيه، يقبض على ذقنه الطري. ثم يسأل:
- بابا! ايش يعني يقبر؟
- يدفن ميت في القبر، في التراب.
- أهااا! ليش مات؟ قتله عسكري؟
- لا.
- شيبه ومات؟!
- نعم.
للموت طريقان عند إلياس. فمحيطه الاجتماعي وتجربته الصغيرة جعلته يكتشف ان الموت لا يأتي إلا على كبار السن. بينما أحداث سنة في اليمن جعلته يقدّر أن كل من يُقتل فلا بد ان "عسكري" هو القاتل.
كلا يا صغيري، للموت صيغ أخرى ابشع مما تتصور. الموت أمر مباغت غير متسامح، لا يحب المساومة ولا يمهل. الموت لحظة فاصلة تتحقق بمزاجها وتنفُذ وفقا لقوانينها.
أما أنا فلم اتمكن من اقامة علاقة متسقة مع المقابر او حشود العزاء. لا اتذكر جيدا متى حضرت مراسم دفن. ربما عندما كنت في  السادسة من عمري. لم أكن مباليا حينها. كنت اتعجب لبكاء النساء.
فقط في باريس كانت المقابر تلفت انتباهي  هناك. كنت اسكن في ضاحية تقع الى الشمال الغربي من باريس العاصمة. يمر القطار عبر تعرجات نهر السين ويقف في محاذاة مقبرة انيقة. ربما كان الورد هو العامل الجمالي الذي يتغلب على مدلولات الموت. ربما مهابة القبور واناقتها وتفنن صنعتها يجعلك تتجاوز الموت والفقدان نحو التأمل في الصلبان المزروعة على الشواهد.
في الربيع قبل المنصرم مررت بباب مقبرة في مدينة ستراسبورغ فشدني ترتيبها وباقات الورد التي يبيعها متجولون في الباب. دخلت وقرأت ما كتب عى الشواهد. اخذتني تواريخ الاضرحة وتفنن الباقات. كنت الى جوار بعض نساء طاعنات في السن. ربما كنت الشاب الوحيد في المقبرة حينها. شعرت بالحسرة لاني لم احضر معي كاميرتي لالتقط صورا للمقبرة.
صحيح ان صنعاء تغص بالمقابر. كنت أمر إلى جوار "مقبرة الصيّاح" وأشعر بالغربة ليس إلا. أما "خزيمة" فيكفي ان تشاهد على سورها اعلانا لامتلاك شقة فارهة وتقرأ: "احجز شقتك الآن".

إبنة عمي، التي تكبرني ببضع سنوات، هي مربيتي الأولى، وأول من أثث له مكاناً في الذاكرة. متزوجة من شاب بجسد ضخم وقلب طفل. في طفولتنا مررنا بجوار مقبرة القرية، قالت لي: هذا قبر جدنا. لم افهم حينها كلمة قبر.
فرقتنا الأيام، ومتاهة الرزق. قبل أشهر زرتها في بيتها. كانت شاحبة نحيلة. كانت بملامح قديسين. نظرة منهكة وصوت عفيف.
اشتد عليها مرضها. قيل: ضعف في الصمام. قيل: ثقب في القلب.
دخلت المشفى في صنعاء. ونزلت في غرفة العناية المركزة أياماً. وزوجها يدب في الأرض وعند الاقرباء يبحث عن تكاليف العملية. يواسيها كلما دخل عليها وعلى كتفه طفلهما الثاني:
- "صارت ابتسامك اشف وأجمل، انتِ اليوم بخير. غدا ستكون العملية." والألم يعتصره عصراً.   
في يومها العاشر. فقدت القدرة على الحركة. تباينت اقوال الأطباء. "جلطة". "كلا، شلل".
"لا بد من نقلها إلى الخارج".
يتوه الزوج بين هذه الأقوال. يبحث عن تكاليف السفر. يعود ينظر إليها. والألم يعتصره عصراً.
تغيب في القاهرة ايام وأسابيع. تأتي اخبارها عفيفة شحيحة.

كانت لا تنتمي إلى أحد. فقط تنتمي إليها، تنتمي إلى الله. بعض من نوره. بعض من عطايا الله وحقه الذي أخذه إليه.
رحلت محمولة على سرير الطوارئ الى القاهرة برفقة بعض من أهلها. وقد تركت ثلاثة قناديل كم أخشي أن يذوي شعاعهم بعدها.
ينتظرها زوجها هنا وهو يضم اليه الاطفال الثلاثة. ويحسب ما صارت عليه ديونه.
كانت بشارة للخير. وشاهد صدق.
في الساعة الرابعة والنصف عصراً، يرن هاتفي الجوال بتسارع. أنظر في شاشته. يظهر اسم اخي ورقمه العتيق. ارفع الهاتف بتثاقل، تندلق بحة متعبة الى أذني:
- هل اتصلت بعمي. لتـ..، لتـ.. ، لتعزيه، لقد ماتت!
فاصل من الصمت بيننا، تنعقد اللسان. انتهت المكالمة.



الخميس، 8 مارس 2012

رقصة إلى الحديدة


رقصة إلى الحديدة
في موعد مع البحر كنا. كان سفرنا إلى الحديدة رقصة صنعائية بامتياز؛ خطوة للأمام، تليها أخرى، وأخرى للخلف بلين، بعدها وثوب جديد. فقد تعطلت السيارة الأخرى التي كانت تقل رفاقنا. كانت اصغر من تحدي الطريق وكنا أكبر من الصعاب، في لهفتنا لملاقاة البحر. لم تتمكن تلك السيارة الصغيرة في الحجم، الكبيرة في الأسرار والحكايا، من تخطي حاجز الجبل. فعادت إلى مربضها محرومة من لقاء البحر.
يخال للمسافر إلى الحديدة أن صعود جبل "عصر" والوصول إلى مقربة من قمة "النبي شُعَيب" يكفيان ليصل إلى البحر في قفزة لا أكثر. تبدو الحديدة عن أقدام الجبال. هكذا على الأقل هي تباشير البحر، كلما اقترب المسافر من الحديدة.
وللحديدة شوق كبير لا يخلو من الغموض كما هو اسم هذه المدينة التي تنسب إلى سيدة كانت تستقبل المسافرين في نزلها. الحديدة سيدة فاضلة كريمة، مدينة تلتحف الوقار لكنها كامنة بالفتنة والإغراء. إنها إيحاء بالاسترخاء وتدفق الرغبة، صيغة ما لتشكيل ذاكرة جديدة من المدهشات.
في مارس (آذار) تتهيأ الأرض لمضاجعة جمال الربيع. في اليمن تتهيأ الأرض بأن تتعرى من كسوة خضراء بعد شتاء انتظار خال من المواعيد. تلتمع أكتاف الجبال التي تستحم تحت الشمس. في (مناخة) كانت الجبال إلهة البحر خارجة منه مبللة تحدّق في السماء.
كل شيء ممكن. الرحلة مليئة بالمصادفات والمفارقات، فقد تلتقي في (سوق الأمان) بجماعة تقطع الطريق مثلاً، أو تشاهد عراكاً دامياً في "استراحة السلام" مثلاً.
يبدأ الهبوط نحو الحديدة، ويبدأ انفراج الرئة، تنشرح الروح، تشعر بهندسة أخرى للمكان ومعنى جديدٍ للمساحة.
"نقيل موسنة" يأخذك إلى كوكب آخر. يجبرك على النظر إلى الأعلى. الطريق هناك ليست أكثر من درابزين متعرج طويل. المنازل المعلّقة كقناديل الأضرحة تنظر إليك بعيون مسبلة نحو الأسفل، تغريك بالوقوف، تنافس البحر في الإغواء. لكن نداء الشاطئ أقوى.
في (حراز)، يمكنك الاستماع لنضال الإنسان والشجر، للبن ملحمة كفاح على جانب الطرقات. كل شيء يوحي بالشموخ. في السوق، لا تستغرب إذا وجدت ثوراً يمر في منتصف الطرق رافع الرأس يمشي الهوينى. فهو يستنهض في مخيلتك ملكاً من تبابعة حميَر.
عند (القَدَم)، ذؤابات الجبال تضرم فيك شوق الالتحام بالبحر، تتراص الأكمات كمراهقين ساعة احتشاد، ومقامرة صوب البحر. هناك البيوت لها زرقة البحر وتراب الوادي. اللون الرمادي هو جسد المنازل المربعة والمستطيلة الصغيرة على حواف الوديان. المنازل التي تتجاوز الأكواخ وتقل عن القصور تسطر حكاية انتظام وصرامة الإنسان هناك في تحديه للطبيعة. فقط المساجد ترتدي لحافاً أشعرياً أبيض؛ لمسة وقار، وصوفية.
أن تصل المدينة ليلا فهذه لحظة غرامية بحتة. لن تتوغل في التفاصيل، فقد تجد فيها ما لا يرضيك. لكنك ستنعم بفسحة خيال وأحلام يقظة دافئة. لن تتوانى في النظر إلى هاتفك، تتحسس أرقام أقرب الناس إلي قلبك، تفتقدهم وربما تستعيدهم في حلم حميم. لن تتخلف عن الكتابة لحبيبتك:
"طيفك هو الرفيق الألذ في هذه الرحلة، نسائم البحر تقولٌكِ، هدير أمواجه يحكي قهقهاتك، أنوار المدينة من خارجها تشعل في دمي ليلة أرجوانية معك..."          
في البحر، يغريك توالي الأمواج وانسحابها أن تذهب معها. أن تغرد غرباً. تذهب وتجيء، في أعماقك استجابة لنداء  قادم من السودان يعبق برائحة البخور وحكايات المساء. لكنك تعود إلى الشاطئ. ربما نسيت حقيبة العمر في صنعاء. ربما لم تحصل بعد على جواز السفر من مصلحة الحنين.
في الحديدة، أشياء كثيرة تحتاج للتأمل، وتحتاج للأمل أيضاً. لا تستغرب أيضا أن (مكتبة تهامة) تغص بالقرطاسية بينما المخطوطات هاجرت شمالاً نحو السعودية أو تناثرت في عاصفة نسيان. في الحديدة القصر الجمهوري مغروس كشجرة شيطانية زاهية بين أكواخ ومدن ليل فقير. الحديدة مدينة منقبة تعاقب نفسها بالسجن والامتناع. 
ثم العودة. بعد التهامة تتصاعد الطريق، تتراص الجبال علواً في صرح نحو المساء. الصمت ملاذ أثير. فقط يرافقك أبو أصيل، يهديك بعض أغانيه.
الربيع هناك لا يظهر إلا في ملابس نساء الريف. أما الطبيعة فقد أحجمت عن الاستعراض. المرأة هي الطبيعة إذن. أما الرجال فهم عابسون على حواف الطرقات. تنقرك نظراتهم حيث "المطبات"، أجسادهم المنهكة تستحق العناية. تستحق الحنو.          
مارس 2012

الثلاثاء، 6 مارس 2012

حتى الكلاب 1


عدنا بعد طول انتظار
حتى الكلاب 1
أظن ان هناك ما يستحق العودة سواء على الصعيد الشخصي او على الصعيد العام.
ولكن هل يجوز لي في هذه المرحلة ان اقييّم ما قضيته من فترة بعد الانتقال الكبير. خصوصا وقد بدأت أشم روائح النميمة اللطيفة (الحشوش) وغير اللطيفة (الطعن) في الأروقة والازقة. "لقد باعنا بسعر بخس. يبدو انه قبض ثم سكوته. الظاهر ان تذكرة كانت تكفيه وزيادة".
كتبت لأحد الاصدقاء قبل فترة غير بعيدة ان ما لقيته من الهوان في هذه الوزارة كفيل بأن يجعلني من الغضب حتى بعد نزولي القبر.
اقول بكل شفافية. ان صمتي في الفترة الماضية لم اكثر من الرغبة في عدم التحول الى بوق او صافرة مخرومة. هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى كانت الانتخابات الرئاسية اهم من العواء ورغبت في ان تمر في رأسي بهدوء تستحقه.
لكن وقد مضى على معاملة لي أكثر من خمسة أشهر يحق لي ان اوضح بعض الاشياء: بما اني وغيري كثيرين من دون ضمان صحي ولا معاش يستر المكشوف من عورة الحاجة العوز. فقد تقدمت إلى معالي الوزير بطلب مساعدة طبية بعد ان ذهبت الى القاهرة برفقة والدي الذي خضع لعملية وعدت من هناك وعلى ذمتي مبلغ 6000 دولار دين. وبما اني مواطن وموظف حكومي فإن من حقي التداوي ومن حق الحصول على تامين صحي وهذا غير موجود بمعني اني لست مواطن كامل المواطن كما يبدو.
الوزارة لا تملك بند للمساعدات العلاجية وهي غير معنية بديون الموظفين. هذه احد ردود قيادة الوزارة وبعد إلحاحي على هذا الحق القانوني فكان ان سيتم صرف مبلغ تذكرة لي كجزء من المساعدة. اطمئنوا لم يصل بعد المبلغ وانا بصدد رقع دعوى قضائية على الوزارة لانها حرمتني من حقي في التأمين الصحي واستنقصتني في حقوق المواطنة.
فإن كان يساوركم شعور بالمواطنه الكاملة فعليكم التوجه الى شؤون المالية والموظفين والمطالبة بتأمين صحيح مع مطالبتكم بتعويض عن ما تدفعوه في التداوي والاستطباب. وتذكروا ان الكلاب، حتى الكلاب لها الحق في العلاج.
أما العمل الجديد فسيكون لنا لقاء آخر تستطيعون متابعة مجرياته والاستمتاع بأخباره الشائقة. لكن هذا لا يمنع ان اشير إلى اني ومنذ ان انتقلت في مستهل الشهر المنصرم لم احصل بعد على جهاز كمبيوتر لاتمكن من العمل. هناك شاشة والحمد لله أما الجهاز فقد ذهب في نزهة صيانة ولم يعد. المعاملة قضت نحبها وانتقلت الى النسيان وكثرة ترداداتي على قسم المشتريات ومكتب الوكيل المالي. مددت في الطريق ذراع ولم اخرج بعد بنتيجة. وهنا اسأل من يعمل على خدمة الأخر الدبلوماسي ام الموظفين الفنيين وقسم الخدمات. يبدو أننا سبب لرزق البعض لا أكثر.      


http://www.facebook.com/permalink.php?story_fbid=3003990133429&id=1072625408&notif_t=like

الحب بين علم الاعصاب والعلوم الإنسانية

الحب بين علم الاعصاب والعلوم الإنسانية (مقال مترجم من الفرنسية) ترجمة مصطفى ناجي الجبزي افتتح في شهر أكتوبر من العام المنصرم معرض استث...