الأحد، 26 سبتمبر 2010

متسع للفرح

عند الساعة الثالثة عصراً، التقيته وصعدت سيارته. رأيتُ في عينيه بريقاً وكان يبدو أكثر أناقة من المعتاد.
التفتَ نحوي وقال:
- ياصديقي، هلّا باركت لي ، فعيد ميلادي اليوم .
ابتتسمتُ له ابتسامة مفلسة من كل معنى. وسافرت بي الافكار على خطوط أخرى.
ثم عاود مناوشتي ببهجته مجدداً.
- عليك أن تُعدَّ لي مفاجأة ما، وأن تشاركني الاحتفال! هيّا بالله عليك، حضر الكاميرا و...و...و....
- كلماته الاخيرة، لم تجد لها مكاناً في أذني التي امتلأت ببعض منها.
شعرت بأسىً كبيراً وحزناً عميقاً تجاهه. له الحق كل الحق أن يحتفل وأن يبتهج، وله الحق أن يطلب مني مشاركته – بحق الصداقة "والعيش والملح" - مناسبته هذه.
لكن لم يعد لدينا متسع للفرح ياصديقي.
وبعد ان غادرنا فقت من غيبوبة البرود واسفت كثيرا على فعلتي هذه
تذكرت انه سبق وان بعث برسالة على هاتفي يذكرني بأن اليوم هو عيد ميلاده.
بعث بها في الصباح ولم استوعبها إلا في المساء .
كم يكفني من الوقت تانيبا للضمير.
لا باس سابعث له على حائط حسابه على الفيس بوك بهذه الرسالة كمن يسقط واجب فرض
"فهد، يا صديقي المتفاني والوجه البشوش!
ألف ألف فرحة لك ياصديقي في هذا اليوم ، وكل يوم واسبوع وشهر وعام وانت الحب والبهجة والسرور.
ولتعذرني على كل الجفاء واللامبالاة التي نلتها مني للتو. صدقني، كنت معك ولم أكن معك.
أنا مخدّر مشلول الاطراف كافة حتى الانسانية منها

لا احتمل كل هذا الحب

انا لا احتمل كل هذا الحب، لقد غدوت صريعا طريح الفراش.
خارت مني كل القوى، اما الكلمات فقد تناثرت ادراج الريح واستعصت على الحروف.
هل تعلمين شيئا مهما؟ انت والشوق صرتما خنجرا مغروسا في الخاصرة لا يخرج.
بمن استجير هذه المرة؟ لست ادري . هل علي مراجعة ما كتبت احلام مستغانمي، نزار قباني، ابن حزم. لست ادري. ربما علي مراجعة نفسي اولاً.
لقد قرأت ذات مرة لصادق جلال العظم ان من يعيش الحب لا يحتاج لان يقرأ عنه. ها أنا اعيش لحظة حب. ولكن. في حالتينا لا بد من لغة تسعف على التعبير وقول ما يلزم. في حالتينا خصوصا، كل منا يتربع على زاوية ما في فضاء مثلث الجنون. ليست الزوايا بالحادة جدا وليست بالمنفرجة جدا. المهم اننا نسعى لان نكمل 180 درجة.
ولكن سأعترف بأشياء ملّحة. انها ترشقني بكلماتها سيدة الحرف هذه. الأدهى ان اجتياحها لي كان مثل سيل محمول. اتوقعه ولست اتوقعه. لقد هبطت على مدراج قلبي ولم اتمكن من رصدها برادارات الحذر. ليس مهماً الان رصدها من عدمه. فلقد هبطت، ومرحى بهبوطها. لكن هبطت فاتحة.
انها تنوى سحبي من يدي في دروب من جبال بعد ان امضيت اعوام من الترحل بين السهول. لقد القيت بعصاي قبل فترة ومعها لا ادري على ماذا سأتكي.
اريد ان اتكئ على صدق مشاعر ودف عاطفة. اني اخشي الانزلاق في مهوى لا رجعه منه فيما لا تزال لدي حسابات عاجلة لم انته منها. اخشى اكثر ان يكون استسلامي لها كليا ودون ادنى شروط تسترجع لي روحي المسلوبة.
قد لا تدري كم انا الان متعب وسعيد. والأهم أني اعيش لحظة حب.

بين حافتين

27 يوليو 2010

اخاطبكم بين حافتي الحياة والموت، اي في حالة المرض. ثلاثة ايام حسوما وانا في كنف الالم. حمى لم تبقِ مني ولم تذر. زوجتي نأت بنفسها وطفليها الى غرفة اخرى خشية ان انقل لهم العدوى. امر مضحك. لا بأس. بعض الصحب اتي ليزاورني على جلسة قات ولم اكن عند مستوى الوعد.
انا الان مستقر في احدى الغرف وحيدا واتوسد بضع ملابس مبللة من العرق. الفراش تحتي شبه مبلل تماما. شاهدت قبل وقت فيلما افريقيا جميلا بالفرنسية. اجمل ما فيه قصة اب ترك عائلته لفترة طويلة ثم قابل ابنته الشابة بعد عشرين سنة من الغياب فطرحت عليه السؤال التالي:
بابا، اين كنت كل هذه الفترة بعيدا عنا؟
رد عليها:
الغابة يا ابنتي علمتنا ان المريض من القطيع ينأى بنفسها بعيدا فإما يشفى او يموت.
لا بأس اني رزقت بامرأة جعلتها المدينة ;;; في تعاملها مع مريض. اعذرها على ذلك واعرف العلة جيدا ولا القي عليها اللوم.
في اليوم الثالث. يدخل علي ابني إلياس ذو الثلاث سنوات. يندهش لانه وجد اباه ذابلا فيما لم يكن كذلك من قبل. عينان غائرتان ووجه من رماد وتراب.
باشفاق شديد يضع راحتا يديه على ركبيتي ويسألني:
"بابا، من جاب لك الحمي؟
عجزت عن الرد عليه . والادهى اني عجزت عن الابتسامة في وجه.
على فراشي تنتابني موجة حنين كبيرة. افتش في هاتفي لاتصل بمن يعنون لي من اصدقاء وصديقات. يرسو قراري على ان اتصل بأمي التي تبعد عني بحوالى 400 كيلو مترا جنوبا.
ثلاث رنات. ثم.
- الو، اماه كيف حالك؟
- بخير. وانتا يا ابني؟
- تعبان قليل.
- يقلعني على ولدي.
تنهمر بعض دمعات من عيني. احاول كبح دموعي. تتكور في حلقي اهة كبيرة.
- امي انا احسن حالا لقد عملت الفحوصات اللازمة وتناولت ادوية. لا تقلقي.
يتصل بي ابي لاحقا. معه كنت اكثر صلابة.
ليلة جديدة ساقضيها في كنف الألم وسأعود إليكم من احدى الحافات. وليكن لنا حديث مختلف.

أصخرة أنا

27 يوليو 2010
عادت مساءا زوجتي من بيت خالي بعد ان حضرت مراسم العرس. عادت وهي تضحك من الدهشة لأن أمي تبكي في عرس ابنة خالي.
امتدت ضحكتها وقالت:
العروس صغيرة القامة ، كانت تقف إلى جوار العريس ، ورغم كعب حذائها فلم تصل إلى كتف العريس وهو بطولك. وانا لست طويلا طبعا.

لأمي كامل الحق في أن تبكي في عرس ابنة أخيها التي لم تبلغ السادسة عشرة كاملة وتزف لعريس يوشك ان يكمل عقده العشريني. ربما لأن اني تعي مرارة هكذا زواج.
زميلي رضوان ما انفك يقول:
ان الزواج في بلادنا اغتصاب مشرّعن لا ينتج غير أطفال نزوة عابرة منفلتة من كل مسؤولية.
ناهيكم عن الأجواء الخفية التي تم فيها هذا الزواج. لم اذهب لأرى العروس التي ما تزال في ذهني طفلة لم تنمُ أسنانها كاملة بعد ان خلعت عنها الأسنان اللبنية . كما لم اذهب لرؤية خالي. ليست هذه الأجواء هي التي تجتذبني .
الهي! انا لست من هؤلاء الخلق.
أنا ربما صخرة او قنينة زجاجية فارغة تنفخ في فوهتها الرياح لتنتج نحيبا لا أكثر.

في مرضها

كيف لي أن افسر مرضها هذه المرة. كنت استشعر ان هشاشتها فتاكة. وان روحها الشفافة قد لا تقوى على مقاومة ابسط صدمة تتعرض لها خصوصا من طرف مباغت وغير متوقع. لكني على يقين ان براعتها في خلق واستنباط المعنى سيقودانها الى ان تحافظ على صحتها وعافيتها الجوانية.
منذ ان ارسلت رسالتها الاخيرة وبعد مكالمة هاتفية ضمتنا للحظات اختفت. كانت الرسالة والمكالمة قد وصلتني في توقيت غير حسن. اذ كنت حينها في فترة اعتلال انا ايضا. بصيغة اخرى كنت خارج الوعي والقدرة على التركيز. رسالتها مكثفة نفّاذة لم اقو على فك شفراتها، بل لم استطع المقاومة فانسحبت من امام شاشة الكمبيوتر ووليت الادبار. اما مكالمتها فكانت متشعبة لم اتمكن من ربط خيوطها واللحاق بتسارعها فتخليت عنها.
حكايتنا هي اشبه بنجمين يتوقان للقاء ويدوران في افلاك متفارقة، وكلما ظن احداهما انه ملاقيا صنوة خذلتة الدورة في الافلاك وخاتله الزمن وتخلت عنه المسافة. مع هذا لم يزدهما البين سوى المزيد من التوق والاستبصار.
الاجمل ان حياة النجمين جعلتهما في مواقع تسمح لهما بان يرنو كل واحد نحو الاخر. فمرة يعاتبه، ومرة يخاصمه ومرة يلوذ بالصمت ليقول الكثير.
اظننا في صمتنا قلنا الكثير، ولكن للصمت اشداق تطبق على البوح والتصريح. اليوم اجدني قلقا مرتبكا من هذا الوضع. فيما لا اجد في اليد وسيلة.
ولهذا تنهال علي الاسئلة رشقاً وتجهماً. وعلى عكس ما يقال ان الاسئلة مبصرة وان الاجابات عمياء. فأسئلتي ضريرة. والاجوبة في اعاقة.
اذكر انها حدثتني عن سعادتها في رسالتها الاخيرة. بالمناسبة نحن لا نتبادل رسائل على الدوام بل ان رسائلنا كثمار النخيل لا تأتي في غير مواسمها، ولا تتحصل إلا بالقطاف. اعود إلى السعادة تلك. اين هي؟ وكيف تتشكل؟ وإلا ما حقيقة هذا الجفاء

في قسوتها

29 يوليو 2010
لكل منا فرصة ان يضعه القدر امام امتحان او امتحانات من نوع خاص. وقد تكون نادرة او كثيرة التكرار. وقد تاتي فرادا او زرافات. وفي هذه الحالة الاخيرة تكون الحياة مجردة من الرأفة وكذلك يكون الاشخاص الذين يؤدون دور القسوة في هذا او ذاك الموقف.
انا، ككل الناس الآخرين وضعتني الاقدار في موقف من المواقف التي تصدرت الاسطر السابقة. ولعل الموقف في تقديري كان من درجة الحالة الاخيرة. فأنا في مرضي اكون في الغالب الاعم وحيدا او محاطا باقل عدد من الناس. هذا طبعي ولست أُحسد عليه. وادفع بالمقابل ثمنا كبيرا لهذه النزوات. لكن لم يتوقف الامر عند هذا الحد. اعز الناس إلي هو الاخر سقط صريع المرض. وشخص ثالث اخر ذهب في عرس لم يرجع منه بعد. أظن ان العروس اختطفته. وتنتظر صحوتنا من غفلتنا حتى تعلن الفدية المطلوبة. يا سااااااااتر.
يمرض هذا العزيز ولا يترك لك علم او خبر. وينغمس في آلامه حد الهلاك ثم يقرر ذووه انقاذه وفيسافرون به قصد الشمال، إلى احدى مدن الشام الكريمة. يرحل بين عشية وضحاها الى عمّان ليتلقى العناية اللازمة طبياً وينسى أمرك. يغفل عن وجودك فيما خطاباته واحاديثه معك كانت توحي لك بأنه اقرب الاقربين إليك.
ما فائدة العتب بأثر رجعي.
تباً! اليوم ساعلن غضبتي.
سأمزق كل الرسائل، واحطم الهاتف اللعين الذي ما انفك ينقل الي صوت مخاتل ماكر. وهمسات لا ود فيها ولا وفاء.
ولست اطلب اكثر من الشفاء لكلينا.
طلب محايد كل الحياد

الثامن عشر من شهر آب

اليوم 18 من شهر آب . انه اليوم الذي اخترته بالصدفة كذكرى عيد مولدي وهو التاريخ الذي طرحته على بطاقاتي الرسمية وجواز السفر.
لا ادري كيف مر هذا اليوم. لقد قضيت حوالي الخمس ساعات في العمل انتقل من مكتب لآخر وازاور الاصدقاء لنحكي بعض نكات ونتبادل اتهامات في العقيدة ومروق عن الدين ثم نبتسم لبعضنا البعض باصدق الابتسامات. نجتر ايضا بعض من الجدل السابق. نقلّبه ونشويه في خياراتنا وامزجتنا على افران العقل او مواقد العاطفة. ثم اذهب لاداء فرضة الظهر على انفراد وعلى عجلة من امري لاني على موعد مع الفراغ والتساؤل. في مكتبي اجلس لساعات امام شاشة الكمبيوتر اتوسل عناده وأحثه على الخطى ليقلب لي صفحة جديدة من اخبار البؤس او اجابات القرف . كلانا صائمان عن الفرح والبهجة. لا شيء يستحق الاهتمام . لا شيء يستحق الاهتمام، او يقتضي التصفيق بحرارة من اجله. الوطن بخير، واسعار القمح ثابتة. جامعاتنا تحتفي بتخرج دفعات جديدة تدلق بها الى السوق الى الهاوية. الامطار عمّت ربوع البلاد. على الويب،اجد واجهات الصحف قميئة شعثاء كطفلة متسولة يبدو عليها اهمال متعمد. تمر عليها السنين فلا هي تتغير ولا نحن نلحظ التغيير في وجهها. فأين منها يمكن  الوطن؟
كم كان النهار طويلا في المكتب. ذرعت الممرات الممتدة مرارا. وفيها قابلت تحت ظلمة النهار اشباحا التحفوا السواد فوق ظلام الرواق واحيانا اصادف وجوها اعرفها. كالعادة نتبادل تحايا الصباح وابتسامات "ناشفة".
تزورني بعض الزميلات/ الصديقات على نحو خاطف. الكل مستعجل من أجل لا شيء. نتبادل اسئلة ولا نجد وقتا للرد عليها. ينتهي لقاءنا بإلحاح على البقاء وإلحاح على الرحيل. وهكذا تتأجل الاجابات ككل القضايا التي نعيشها فراغا وارتباكاً.
في الشارع اقف على الرصيف بانتظار حافلة كسولة. يأتي (ميني باص)مهترء قديم. السائق عجوز بعد الستين. رغم انه كان حليق اللحية إلا ان بعض شعرات من ذقنهتوشي به بصكوك بياضها الخافت. يتقدم خطوة للامام وخطوتين للخلف بحثا عن راكب متثاقل لم يعقد العزم بعد على اخذ الحافلة. في السوق انتظر صديقا قديم. آخذ حاجياتي الترفية الزهيدة. نقرر مكان الافطار..
بعد العشاء ارمي بجسدي المنهك امتناعا ورغبة في المجلس انظر بخذلان إلى الاشياء من حولي . جهاز التحكم عن بعد التابع للتلفاز، هاتفيّ النقال، كيس القات المجاور، وكؤوس الشاي المستكينة.
تمضي ساعات من الصمت واللهاث ثم نبدأ معركة الجدال. نكرر المكرر من الحديث عن مقالبنا في اصدقاء لنا. ثم ننتقل رويدا الى اسعار السلع وآخر قرارات الحكومة الصائمة عن الحكمة. نفكر كثيرا في مستقبل الاطفال الافغان والمحاصرين بالسيول في باكستان.

اصعد سيارة اجرة في عودتي الي البيت. اظل صامتا حتى اصل. اكتفي باجابات مقتضبة على اسئلة السائق حول عملي ومن اين جئت واين سأذهب . لا استطيع استنكار فضوله. ادلف عتبة البيت النائم.
لا شيء جدير بالذكر في يومي هذا سوى انني كنت على انتظار لقياك. على امل ان تكرمني الصدفة بان احادثك لدقائق. على امل ان استمع لهذيانك وهدير حكاياتك البسيطة. ثم استلذ ببعض الارباك عندما تقولين لي: "حبيبي" لتضمدي جراح يومي وتشعريني بانك انت الوطن.

الأربعاء، 22 سبتمبر 2010

العيد هنا مختلف



13 سبتمبر 2010
العيد مختلف هنا
تهدأ الحياة في المدن الكبيرة مثل صنعاء إذ يسافر الناس إلى الأرياف أو إلى المدن الأخرى ويذهب الكثيرون إلى عدن. يلاحظ في النهار أن الشوارع خالية. تبدأ الحركة قليلاً عند المغرب. يزدحم الشارع الأكثر استيعاباً للمظاهر العصرية في المدينة؛ شارع حدة. تذهب العائلات لزيارة الأهل. الكثير من العائلات تذهب إلى المطاعم. كطقس للحياة الاجتماعية والمشاركة في نشاط جمعي مديني. أجده نشاطا استهلاكيا زائفا لا يحتوى على أي بعد مدني حضاري. نفس الحواجز التي تفصل بين الناس في تفاصيل الحياة موجودة في المطاعم واماكن التجمعات العامة. ما الفائدة ونحن نتسوّر بمفهوم العائلة ونمتنع عن أي تفاعل بين الجنسين في أطر منظمة وتحت الرقابة. ليس لدينا سوى العيون التي تثقب بالونة هذه القيود.
على الصعيد الشخصي، لا أمارس شيئا معينا في مثل هذه المناسبات. لكني أريد هنا أن أكتب لأفرغ ما بجعبتي من التفاهات. أنا لي طقس خاص. أذهب لزيارة عدد محدود من الأهل، أمضي النهار في مضغ القات معهم أو مع الأصدقاء وهذا الغالب وفي الليل أعود إلي البيت، استمر في مضغ القات. اجلس إلى الكمبيوتر، استذكر يومي، اعمل إن كان لدي عمل كترجمة مثلاً. أقرأ مقالات متراكمة. اكتب على الفيس بوك بعض هذيان. أفكر فيما سأفعل غداً. اشتاق بالفعل للذهاب إلى شارع حدة لأتلصص على فتيات العيد. أجد لدي رغبة في التلصص أكثر مما مضى في العيد عيون الناس تقول أشياء كثيرة. فالناس يتساهلون في كثير من القواعد: مثلا يسمحون للأطفال بالكثير من النزق والتجاوز. يسمحون للفتيات بارتداء ملابس عصرية بديلة للبالطوهات السوداء الكئيبة. يسمحون لنسائهم برفع النقاب قليلاً. وأحيانا التخلص منه إذا كانوا داخل سياراتهم. في العيد ترتدي النساء أحذية رفيعة بكعب عال وألوان أنيقة. تبرز بفضول أصابع أقدامهن. تبدو أقدامهن أكثر نضارة على غر المعتاد. بعض النساء ما يزلن يستعملن الحناء بنقوش تقليدية وهذا ما أجده شهي والبعض يخضبن الأظافر بلمعان زائف نافر. في اليمن هناك مثال شعبي يقول إن جمال المرأة يبدو من أقدامها. أما عيونهن فتكون أكثر جرأة من المعتاد. البعض يشاكسن وإن كن إلى جوار أهلهن.
اريد ان احكي ما هو أهم من هذا السرد المتخاذل. سأحكي ما صنعت يوم العيد. لسنوات عديدة وأنا لا اهتم بحضور صلاة العيد الجماعية المختلفة عن بقية الصلوات. لم أنم ليلتها. اغتسلت وارتديت ملابس ملائمة. ليست جديدة. فلم أعد احرص على شراء الجديد في كل عيد. انها عادة قديمة رغم ان والدي كان يملك محلا لبيع الملابس. لكني احرص بالمقابل على الاحتفاظ بالملائم. أنا حقيقة لا اهتم بتجديد ملابسي إلا لحاجة. أو ربما لم اعد قادراً كغيري من الناس الكثيرين على شراء الجديد.
ذهبت عند الشروق إلى الجامع المجاور. جامع في اليمن وباسم تاجر يمني لكن خطيبه غير يمني. حتى في هذه نحتاج إلى استيراد خطيب. هو خطيب طيب. خطيب مستورد. كان المسجد مكتظاً بالناس حتى أني لم أجد لي مكاناً غير الشارع أو على الرصيف غير النظيف. لا تندهشوا. القاذورات في اليمن لا تستثني بيوت الله. كان الزحام أكثر من الأيام العادية وأكثر من يوم الجمعة. في العادة يصلي الناس ثم يستمعون للخطبة. هذه المرة ما أن فرغ الإمام من الصلاة حتى انفض الناس وتدافعوا نحو الشارع، مع أن الأهم في صلاة العيد هو الخطبة لما فيها من وعظ مختلف عن بقية الأيام خصوصا وان هذا الوعظ يتركز على العلاقة بين الأقارب وبين الأرحام وصفاء القلوب بعيدا عن تاريخ السلف وحكاية الصالحين ومآثر الخلفاء والحكام الأتقياء. وربما هذا ما ينقصنا. وكذلك يتحدث الخطيب في العادة عن العلاقة بين الأغنياء والفقراء.
في الشارع تبادل الناس التحايا والتهاني بالعيد. في اليمن يتصافح الناس ويتبادلون القُبل على الخد أو الأكتاف أو يتهاترون الأيادي المتماسكة. كان السلام عاجلاً. كل واحد يقول كلاما سريعا وكأنه شريط تسجيل. وقد لا يعي ما يقول. الكل يتلعثم في الحديث. ابتسامات بريئة كأنها بلا معنى. وكأنها غير مقصودة. أوجه الناس كانت بلاستيكية حقا.

بعدها قررت الذهاب إلى بيت خالي لزيارته وزيارة جدتي من أمي وخالتي التي تكبر أمي لأنهما خرجتا قبل يومين من المستشفى بعد إجراء عملية كل واحدة. العمليات عندنا بالجملة. في الامر طرافة رغم جدية الموقف. في طريقي كنت أصطحب أخاً لي اصغر مني. يتبعني بخطوات ولا يسير إلى جواري فهمت أنه يتعمد التأخير. له الحق؛ لسنا دفعة واحد. على الأقل بيني وبينه فارق من السنين يساوي نصف عمري. هل صار الآن يخجل من مرافقة هذا الكهل الذي صرته؟

أخرجت هاتفي من جيبي وهاتفت أمي. كانت تنتظرني. لم تبدأ حديثها على نحوٍ نمطي وتقول:  الووو.
بادرت بالسؤال :كيف انت يا ابني؟ عيد مبارك ....
صوتها كان مليئا بالشجن وغامر بالحنين، كان مليئا بالانتظار والفرحة والحسرة في آن. فرحت لأنها سمعت صوتي لكنها تتحسر لأن العيد يأتي وأنا بعيد عنها. يبدو لي انه العيد الرابع بعد العاشر في أقل تقدير وربما العشرين وأنا لا أقضي العيد تحت ظلال حنانها. لم أتمكن من الرد عليها. تلعثمت. كانت أحدى أخواتي الصغار إلى جوارها. شابة فطنة.  تكلمت معي. كان لديها حدس كبير. سألتني لماذا حلقي جاف والكلمات تخرج سحباً من حلقي. بالفعل كنت كذلك.

واصلت سيري نحو جدتي. في الطريق، وهي مسافة بين مسجدين، كنت أرى في كل اقل من عشرة أمتار متسولاً واحدا على الأقل. المسافة كانت تزيد عن اثنين كيلو متر. كم في هذه البلاد متسولين؟ بشكل آخر كم في هذه البلاد من فقراء؟ نحن أكبر حظيرة للفقر. بلاد تتغنى بضم عشرة مليون فرد أو مواطن إلى قوائم الضمان الاجتماعي. يستلمون ثلاثة ألف ريال في الشهر أي أقل من 15 دولاراً تصلهم كل ثلاثة أشهر. إذن كم في صنعاء مساجد؟ وكم حولها ممن يمدون أيديهم توسلاً – صادقا احيانا  وغير صادق في احايين أخرى- لبضع ريالات من الميسورين. لا أظن ان هناك ميسورون في هذه البلاد. حتى الثري في ظل الحرمان فقير. فهو لا يستطيع الاستمتاع بماله بين أكوام الفقر هذه. أظنه سيلجأ إلى إخفاء ثراءه خوفا من الحسد وما إلى ذلك مشاق. في الطريق قابلت أناس آخرين من غير المتسولين بالطبع. أطفالاً يركضون ليسمعوا وقع الأحذية الجديدة. فتيات يرفلن بملابس العيد الجديدة الخارجة عن كل بقية الأيام سواء في الألوان أو التشكيلات. الفتيات يتعمدن استعراض خصلات الشعر على الجباه وهز الأكتاف العارية حصل السبب او انعدم.
كما قابلت كباراً يسيرون على هوادة حيرة ودهشة. الأعياد والمناسبات تداهم الناس في خضم انشغالاتهم. انا شخصياً لم أعد انتظر السبت او الأحد او الجمعة. ما لم يكن لدي موعد يشغلني او لقاء هام. وإلا فالأيام ستأتي. تبادلت التحايا مع بعضهم. صافحت البعض الآخر. تبادلنا تهاني العيد وأحلى الأمنيات دون معرفة بعضنا لبعض. نسينا أن نتبادل أمنيات بحياة أفضل، بمستقبل أفضل، بقطعة أرض لكل واحد منا يفترشها ويأوي إليها دون متاعب الإيجار الشهرية وقلق زيارة المؤجر، أو منغصات الانتقال من بيت لآخر كلما قرر مالك البيت تزويج ابنه في عذر يتخلص به منك. وللحديث بقية

حوار الصخرة للماء

10 سبتمبر 2010

تمضي السنون ولا نصل !
هكذا كان المفتتح.

لدينا من الرغبة الشيء الكثير
ولكن هل لدينا من الأمل بقدر هذه الرغبة
الناس يرغبون
لكن لا يرغبون في دفع ثمن الرغبة هذه
ولهذا ينسحبون سريعا
بالنسبة لي الرغبة هي الأرض
والأمل هو السماء
والمطر بينهما دائرة مغلقة
ألم يولد الأمل من رحم  الرغبة؟
الإنسان بلا رغبة إنسان بلا لون
الرغبة لون الإنسان إذن
أليس كما يرغب الإنسان يفعل؟
أو يدور في فلك التفكير في رغبته؟
 إذن الإنسان أسير الرغبة.
ولكن من ينتصر الإنسان أم الرغبة؟
من يحاصر الآخر الإنسان أم الرغبة؟
ثم ان علاقتنا باشتهاءاتنا شبيهة بقوائم حسابات
يظهر فيها الجسد هو المدين دوماً
لذا نهرب او نحاول الاختفاء من امام الكثير من الدائنين
وما أكثرهم:
العقل
الاسرة
عمامة شيخ الصبية
الشريك المؤسس
والجمعية العمومية
لذا
صدق صديقي الشاعر عندما قال
في الشوارع الخلفية أمل كبير في الخلاص

حديث الاميرة

10 سبتمبر 2010
في زيارتي للأميرة وجدتها
تنام على أريكتها
وتسحب أنفاسها بطمأنينة.
تتربص بها وردات بيضاء
فيما الفراشات تحرسها.
لا تكترث الأميرة
لأنها تدرك ان الوردات غيورة من بياض قلبها ونقاء عينها
تستسلم الوردات وتطلب الصفح
عندها تستيقظ الأميرة وتجدني أتأمل فيها
باغتتني بالسؤال :
ماذا تصنع ؟
لم تسعفنِ لساني على الإجابة
اجفلت ...

ثم دار بيننا حديث طويل
سألتني فيه على نحو مستفز
كم عدد حبيباتي
فقلت لها
الحبيبات كُثُر
والقلب خاو
اثار ردي حفيظتها
فقالت إننا نحب مرة واحدة وامرأة واحدة فقط
فلماذا أنا على العكس من هذه القاعدة
أخبرتها أني اتفق معها بأن الحب كالموت
مرة واحدة في العمر
ولكن كم من المرات ونحن نشارف على الموت
ثم نعود إلى الحياة
وأضفت"
كل قصص الحب التي عرفتها لم تكتمل
بعضها انتهي قبل ان يبدأ
وبعضها كانت ولادته طويلة وتعاقبت عليه المواسم
فجاء في غير موسمه


 لكني أكدت لها:

أنا كالطفل يموت هياماً بلعبة ما
ثم ينام وينسى كل عذاباته معها
ليس هذا ما يهم
فهناك صدع آخر
القلب كهل يا أميرتي
طمأنتني كثيرا
بأني ما زلت قادراً على الحب
واني إنما ادعي كهولتي لا أكثر
وان الحياة خلف النافذة طرية بضة مغرية

الحب بالنسبة لها،
حكاية الماء والإنسان
يعطش الإنسان ويبحث عن الماء
ما ان يجد عينا
ينهل منها وكأنه لن يجدها ثانية
وكأنه يومه الأخير
يعب حتى الرواء
لكن سرعان  ما يعطش

الحياة جميلة بالآخرين

29 أغسطس 2010

إياد، ابني الذي لا يبلغ من العمر السنة واقل من شهرين، اصطحبته بالأمس إلى البقالة لأشتري له عصائر، ما إن دلفت أقدامنا عتبة المكان حتى رفع سبابته الصغيرة الجميلة يلوّح بها في أرجاء المكان ويتمتم ببعض أصوات لم افقهها لكني فهمت رغبته في الحصول على قناني وعلب العصائر والحلويات المتراصة على أرفف البقالة. اكتفيت بأخذ علبتي عصير وخرجنا، ثم مررنا من أمام بائع الخضار وإذا به يلتفت نحوه ويصرخ مطالبا بأن نعرج على صاحب الخضروات. كرر المشهد مرة ثانية فأخذت له مسرورا فاكهة كمثرى مغرية كقلبه. لكن خطر على بالي تساؤل : هل الاستهلاك سلوك فطري؟



بالأمس ذهبت في عمل بعد الظهر. عدت إلى البيت سيرا على الأقدام فقطعت قرابة الثلاثة كيلو مترات عبرت فيها أزقة الضفة الاخرى من صنعاء القديمة فالتحرير فشارع القصر ودخلت سوق القاع ثم واصلت حتى البيت. لعل سوق القاع كان أهم محطة. فأنا لم أعبره منذ مدة طويلة. امتلأت انفي بروائح الخضار والبهارات وأعلاف الماشة مررت بقرب قطيع من الخرفان تنتظر الخلاص وشاهدت طفلا يداعب خروفا عنيداً. أشبعت عيني من النظر في المارين والبائعين. نظرت مليا في الزحام إلى أعين المتسوقات المنقبات. كنت في قرارة نفسي أعطي كل واحدة منهن اسما وسنا وأحيانا الأصول التي تنحدر منها. لا اخفي إعجابي بعيني امرأة حسبتها حبشية التربة. كم كانت عيناها مدهشتين. بعد السوق مباشرة كنت على موعد مع امرأة طويلة نحيفة تلتحف السواد من قمة رأسها حتى مقدمة الحذاء الأنيق. أثار السواد في نفسي ضحكا فاضح غير مبرر. لم أتوقع أن أنال درسا في البالطو من سيدة افريقية تحمل في جيناتها حرية برية هي درس الله في البشر . كانت في مشيتها وتمايلها تبدو لي صومالية بامتياز. على بعد خطوات وقع نظري على فتاتين فارعتين وسمرة أخاذة. ترفلن بألوان الحجابات وبقامات النخيل. لهما ابتسامة الربيع الفاتن. كانتا حبشيتان بالطبع. عدت إلى البيت واشعر باني أغنى رجل في العالم. الحياة جميلة بالآخرين.

حاجتنا الى اجتراح نسق تفكير

هذا مقالي الاخير الذي صدر في صحيفة النداء قبل اسابيع قليلة



حاجتنا الى اجتراح نسق تفكير
مصطفى الجبزي
28 يوليو 2010

قبل اشهر ليست بالبعيدة، مات عالم الانثروبولوجيا والاجتماع الفرنسي كلود ليفي شتراوس عن عمر يناهز المائة وقد ترك ورائه اعمالا قيمة جدة هي حصيلة عمر واجتهاد فكري فريد. ولكن كان اللوم يلقى عليه رغم "مآثرة الفكرية" في أنه لم يشكل في كل نتاجه نسقاً فكرياً.
قبل ايام وقع نظري في "غرزة" احد الاصدقاء على الصفحة الاخيرة من ملحق الثورة الثقافي وقرأت في ذلك العدد القديم الذي يعود الى العام 2009 في عمود على يمين الصفحة مقالا - ان جاز تسميته كذلك نظرا لحجمه - للاستاذ خالد الرويشان يقول فيه – وكان ذلك عقب اعلان منح الدكتور عبد العزيز المقالح جائزة العويس - ان هذا التكريم هو لليمن برمتها وانها رسالة اخرى تقول في ما معناه :"في اليمن الذي يصوره الاعلام على انه ملاذ للقاعدة ومصدر اقلاق للاخرين، يوجد في هذا البلد ايضا وجها حضاريا اخر.
نعم لذلك التكريم لقامة كالتدكتور المقالح دلالات كثيرة وهي تكريم لليمن وعقولها. ولكن – وانا هنا لا استطيع سوى تسجيل كامل حبي واعجابي للدكتور المقالح الذي لا تغنيه كلماتي هذه فيه في شيء- ليس في اليمن فقط غير المقالح، او لنقل، هناك اقلام كثيرة وعقول قادرة على ان تبرهن بانها ايضا من تربة هذا الوطن. ولكن اين هي؟
لا اقصد ذكر اسمائها ولكن اين نتاجها؟ وانا هنا ارى ان تكريم الدكتور المقالح يطرح فكرة دراسة التكريم بحد ذاتها من حيث اسباب جدارة الدكتور بها. وهي بالتأكيد ليست لاعتبارات شخصية او اقليمية او ذات ابعاد سياسية او استرضاء لقوة يمنية سياسية يقصد من التكريم كسب رضاها. ليس من ذلك في شيء على الاطلاق. التكريم كان اعتبارا لجهد الدكتور المقالح ونتاجه الفكري على الصعيد القومي والعالمي ان جاز لنا القول او تعبيرا عن امانينا.
بصيغة اخرى، ما هي البيئة الفكرية التي خرج منها المقالح ليكون هذا الاسم العلم؟
فقد كتب في الشأن الاجتماعي والثقافي والادب والحياة اليومية واثبت انه يمني بالاصالة وهو مع ذلك عربي اللون عالمي الهوى. فماذا اذن عن الكتاب والمفكرين اليمنيين الاخرين؟
الساحة لا تخلو ولم تخلُ يوما من فرسان كثر. ولكن كيف يتم التميّز والتمايز؟
لست ادعي المقدرة على تقديم اجابة لمثل هذا السؤال لانه مدعاة لدارسة متعمقة في الواقع اليمني، الثقافي والاجتماعي والسياسي...
ولكن ما يهمني اليوم هو التالي: هل بيئتنا اليوم عقيمة عن انتاج تفاعل فكري يتعامل مع مدخلاتها ويتدارس شأن هذه البيئة؟ ام ان عقولنا ليست قادرة على استنطاق هذه البيئة وفهم دواخلها؟ على نحو اخر، لماذا نفتقر الى نسق فكري يعنى جوهريا وشموليا بقضايانا؟
ان عدنا الى المقالح فهو من نتاج المدرسة التقليدية وهو في ان ابن "المدرسة الحديثة" (بمعناها الواسع الذي يستوعب المعاصرة والحداثة والعلوم والمناهج الحديثة) أي رضيع اللحظة الراهنة. وله اتراب من جيله لم يدخروا جهدا في الاشتغال في الشأن اليمني. لا اريد حشر اسماء كثيرة، فلا ذاكرتي ستسعفني على ذلك ولا معرفتي وقراءاتي ستصدقان في هذا الشأن. ولكن كان في كتاباتهم واعمالهم اطار جامع يعكس انتمائهم – ولست هنا اشكك بانتماء الاخرين او الجدد – واندماجهم وسعة همومهم ومشاركتهم الشأن العام حتى يترائ لك انهم من صانعي تلك اللحظات. ولكي اوسع دائرة المقصودين سأشير، كدلالة على نوعية ذلك الجيل لا اكثر، الى كتابات الاستاذ عبد الله البردوني التي عنت بالشأن اليمني حتى يخال لك ان البردوني هو اليمن وان اليمن هي البردوني..
في وقتنا الحالي تغص ايامنا باحداث متشعبة ومنها ما هو جوهري وحاسم في حياة اليمنيين او اليمن ولكن لا نجد اشتغالا فكريا يستوعب هذا الكم من التفاعل والسبب والنتيجة.
يمكنني ان اسرد اسماء كثيرة من الاقلام التي تشغل حضورا مكثفا في الصحف وفي المطبوعات الاخرى كما ان الجامعات اليمنية اليوم باتت تأوي اعدادا كبيرة من الاكاديميين اليمنيين وكلٌ يساهم بما تيسر له من الكتابة والتفكير والتنظير. ولكن، لم يتوافر بعد نسق تفكير يستوعب اليمن وما يعتمل فيه ويرسم خارطة لاستشفاف طريق المستقبل.
هذه هي وجه نظرنا التي سنعمل على الدفاع عنها بالتاكيد وبطرقنا التي تتوافر علينا.
 في صياغة اخرى: لماذا نجد الكتابات سواءً الصحفية او السياسية او الفكرية او التاريخية... التي تصدر في ارجاء البلاد او عن ارجاء البلاد تتشعب في طرق شتى غير قادرة على رسم ملامح رؤية؟
ولكن أي رؤية نقصد؟
رؤية تتشرب روح العصر وتنهل من وسائله وادواته وتعنى بواقع اليمن وبحقيقة وجوده التراثي والراهن وتستبصر طريقا لمستقبل يجسّد التطلعات ويعيد الاعتبار. والرؤية هذه هي تعريفنا للنسق المطلوب من وجهة نظرنا.
إذن هل غياب النسق الفكري والتفكيري هو مسألة منهج؟ ام فقدان للحساسية العامة؟ ام فتور في عمل فكري واسع الابعاد؟
في حديثي مع بعض الاصدقاء حول هذه القضية ومسألة الغربة التي نعانيها - نحن ابناء جيلي ومن هم في سني او اكبر بقليل وبالتالي اللاحقون ايضا – خصوصا عندما نقرأ في كتب جيل الثورة ومن هم قبلهم ومن هم بعدهم بقليل، "صديقي" الكاتب محمد عثمان وصل الى خلاصة ما مفادها ان الجيل السابق – لنقل جيل المقالح ومعاصريه – كانوا نتاج المدرسة التقليدية واهتماماتها وقضاياها فيما نحن نتاج "المدرسة" التي لم تنجح في غرس قيمها وبالتالي تسببت في انسلاخنا عن ذلك التيار. وان علينا مراجعة منابعهم والتي سنجد انها تشاركنا اهتماماتنا وتمثل حالة تقدم تفكيري بفضاء رحب يستوعب اليمن بكل مكوانته وجغرافيته.
انا شخصيا لا اجد ان "المدرسة" جانبت الصواب ان كانت تقصد ذلك. فعملية التحديث تقتضي احيانا خلق عازل فكري بين جيل واخر، يفصل بين القديم وادواته وطرق تفكيره وربما قضاياه ان اقتضى الامر والحديث وملحقاته. ولكن إلي أي مدى نجحت المدرسة في ذلك؟ المدرسة هي وليدة العصر الحديث وتنقل معارفه ومناهجه وطرق تفكيره ومعالجاته للواقع والنظر الى هذا الكون. فهل كانت المعارف التي نتلقاها تعكس هذه الروح للمدرسة؟ وهل استطعنا ان نخلق بيئة تجد المدرسة فيها البيئة الحاضنة؟ بمعنى اخر على انغمسنا فعلنا في عالم اليوم؟
وفكرة الصديق محمد عثمان التي اشاركه فيها جزئيا تعكس مقدار الفشل في مهمة المدرسة. وهذه لها اسبابها التي لن نخوض فيها.
رغبة في الدفاع عن فكرتنا الاساسية، سنجد ان الجيل السابق الذي سعى الى التعبير عن اليمن بتطلعاته وهمومه في اطار شامل ينحو منحى الموضوعية – ما استطاع- ويمثل الضمير الجمعي والصوت الطلائعي وجماعة التحديث كان في الاصل قد خرج من رحم التقليدية وتشرب رحيقها وبعدها الوطني والقومي والعقائدي ايضا. فالمدرسة التقليدية كانت تعنى بعلوم القران والفقه واللغة والشعر والاشتغالات العقائدية (الفلسفية ان جاز اعتبارها كذلك) وتاريخ امة يطل على مدار القومية العربية بعد ارتكازه على يمنيتها وقحطانيتها احيانا. فيما المدرسة الحديثة تقدم كماً معيناً من المعارف في علوم شتى تضمنت الى جانب اشياء اخرى اساسيات العلوم البحتة و قادت فيما بعد الجميع الى الفصل بين المعارف بعد أن تشعبت وفرضت عليهم الجدال الدائر في الفكر والاديولوجيات في الغرب الذي نستورد منه كل المعارف. لذا نال الجيل القديم حصة وافرة من تجذره ثم انتقل الى العصر وهو يستند من ناحية الى اسس موروثه، ولكن محمل بتناقضات القديم والحديث والعقل والميافيزيقيا. على ان الجيل الذي دخل المدرسة الحديثة تلقى علوما ومعارفا "غربية"، وعُرِض عليه جدل ليس من افرازات بيئته لم يتمكن من تمثله والتقدم به والانتاج فيه فيما هو يعيش في بيئة تقليدية اكثر افتقارا للتنوير القديم وتعاييش حالة رفض للجديد.
ولهذا كان الجيل القديم (وانا هنا لا اريد تحميل لفظة القديم اي نعت قدحي) قد خطى خطواته الاولى وفق نهج شمولي لم ينضج بعد كإطار منهجي لكن مارس نفسه على هذا النحو، فيما الجيل الجديد أُقحِم في تشعبات المناهج والعمل الجزئي.
اهم من ذلك ان الجيل الحديث يغرق شيئا فشيئا في بحر الحداثة والمدينة واخيرا العولمة وكل هذه تستند على الفردانية وذوبان الهوية والاشتغال على مواضيع متقلبة ونابعة من بيئات اخرى وان كان هذا الانغماس مشوها في احيان كثيرة.
وفقا لما تقدم، يمكننا بكل تهور الحكم على المسألة بأنها إذن مسالة منهج. فقد كرسنا فردانيتنا في تناولنا للشأن العام ولم نستطع بذلك استيعاب قضايا وطن. واذكر هنا ما كتبه الاخ نبيل الصوفي عن غياب الاهتمام بجيل الشباب سواء من القائمين على السلطة او المشتغلين في الشأن العام من كتاب ومفكرين. كان محمود ياسين قد سبقه في ذلك بأن قال بان من يديرون شأننا او ينادون بادراة شأننا هم جيل لا يحفل بنا ويريد تكريس مفهمومه هو لتطلعاتنا.
انا اتساءل هنا هل يمكن تناول شأن الشباب في معزل عن بقية الشرائح؟ ثم من ينادون بوجهة النظر هذه هل سيظلون شبابا الى ما بعد عشرة او عشرين عاماً؟ لذا مرة اخرى نرى انه من الصعب تجزئة القضايا.
في تجربة اخرى هي اشباع لما تقدم. نجد ان الساحة الثقافية تشظت الى اجيال من ناحية والى تقسيم وفقا للنوع الاجتماعي. فالمرأة اشتغلت على همومها لا اكثر والتفتت الى قضاياها على نحو خاص. جيل الشباب حاول اشتقاق دروب جديدة يخالف فيها الكبار ويثبت حقيقة وجوده واحقية تسيده فيما "الكبار" تمسكوا بالاقدمية واسبقيتهم الى الكراسي وكرسوا تهميش الاشبال.
تشظت الاهتمامات اذن، وبات كل يغرد في سرب خاص به.
لكن هناك نقطة اخرى هي اكثر اهمية وهي نتيجة لسابقتها. وهي ان الاشتغال على قضايا جزيئة استغرق وقتا طويلا لم يخرج بنتائج نوعية - نظرا لاسباب عديدة مرتبطة بطبيعة التغيير وكيفية الاشتغال على الهدف وتحقيقه ثم ما هي الوسائل التي تم الاستعانة بها -  ولّد في الجميع على نحو جزئي ايضا فقدان الامل ليكون حاصل هذا الواقع فقدان امل جمعي. وهنا ماتت الاحلام الكبرى, تم خنقت التطلعات الجمعية. وبما ان الكل الجزئي الفرداني لم يؤول الى نتيجة، لم تسع "الاطراف المعنية" الى طرق باب النهج الشامل. ففقدت الحساسية العامة تجاه الشان العام.
 
اما عن العمل الفكري، وهو نتيجة لمقدمات سابقة. ففي الجيل الجديد الذي تربى على يد "المدرسة الحديثة" والتي لم تفلح في تجسيد اهدافها ولم تتوافر لها بيئة مناسبة, عندها قُدِّر للجميع ان يطفوا على اللااسس المنهجية. وهذه حالة يؤكدها الناقد سعد يقطين في مقابلة له في مجلة دبي الثقافية لشهر يوليو 2010 فيما يخص السياق الثقافي والادبي في المشرق والمغرب إذ يؤكد ان المشرق لم يشتغل على المناهج بما يكفي وان المغرب لم يصل بعد إلى خلاصة الاشتغال على المناهج. ناهيك عن ان المدرسة لم تؤسِس لبنية ثقافية غنية ولم تستوعب عناصر الواقع اليمني في حالة المدرسة الحديثة في اليمن. ولم تُدر على أسس مؤسسية تغرس روح الوطن في الطالب، ليستمر الامر تباعا نحو الجامعة وهكذا. فكيف سيكون النتاج الفكري إذن؟
أتساءل كثيرا ما اذا كان هناك اهتمام للاشتغال على الميثاق الوطني للمؤتمر كخطوط عريضة وتوجهات نحو نسق فكري؟ أو إن كانت رؤية اللقاء المشترك للاصلاح الوطني هي نتيجة اشتغال فكري يمثل نسقا فكرياً؟
أقرأ ما يقع في متناول يدي لمحمد الحبيشي، لبن دغر، للدكتور ياسين، للظاهري، للبتول، للدكتور فقيرة، لعبد الباري طاهر، ولكتاب اخرين. كما تغريني كثيرا كتابات فكري قاسم، مفارقات منصور هايل، انامل ابتسام المتوكل، مدرات الدكتور شجاع، منهجية الدكتور الصلاحي او الدكتور عادل الشرجبي. وتستهويني اركيولوجيه محمد احمد ناجي. واسماء كثيرة من دكاترة وكتاب وصحيفيين. لكن اجدني اقسّم نفسي في كل هذه الانتاجات لأنها لا توحد رؤية ولا تشكل منظورا.  
نحن فعلا بحاجة الى رؤية جشتالطية تعني بانطولوجيا الانسان اليمني في مجموعه وليس في جماعات. نحن بحاجة الى خلق مسار تفكير شامل يتناول مسألة التحديث في اليمن مثلاً او تكوين جمهور الدولة او ثقافة المواطنة او افاق العلمانية في اليمن – في ظل الجدال والتنافس القائم بين التيارات الدينية المختلفة- او كيفية تهيئة مجتمع مدني.  ولتتشعب وتندرج تحت هذه العناوين عناوين كثيرة وبلا عدد. لماذا مثلا لا ندرس التهرب الضريبي والجمركي من منظور ثقافي، لماذا لا ندرس العلاقة بين المواطن والدولة من ذات المنظور؟ او مثلا فشل الشراكات التجارية البسيطة كمدخل لدراسات الشراكات المجتمعية او السياسية؟ ..الخ من القضايا التي لا تنتهي .
مع التوكيد على ان حاجتنا الى نسق مثل هذا هي حاجة ثقافية بحتة وبالتالي ينبغي ان يكون نسق ثقافي بحت.

مدينة تخطف اعمارنا على الامهات


السبت، 7 أغسطس 2010
اليوم تغادرني امي لتعود الى القرية. كانت قد جاءت لمزاورتي حال مرضي.
لم تبق معي طويلا. تخاطفها اخوالي واخي وابناء اخوتها واخواتها .
كم كانت فرحتة طفلي وامهم بها. إذ سرعان ما أتلفوا.
لكن هكذا هي المدن تخطف كل الاشياء الجميلة.
انا لم اقو على الذهاب لتوديع امي .
لا احتمل لحظة الفراق تلك ولا اريد ان ارى دمع امي. فهل انا فعلا اخجل من دمع امي؟
ام اني اتهرب من مواجهة ضعفي؟
بالمناسبة ليست هذه المرة الاولى التي افعل هكذا.

***
كيف لي ان التمس العذر لدى امي؟ وكيف لي افهامها بانها انجبتني لتنهشني ذئاب الغربة الشتات؟

امي ! إلى متى هذا الاغتراب؟
إلى متى هذا الهروب؟

***
هل تعلمي ان الاقدار تجنت علي عندما ابعدتني عنك في سن الاربع سنوات لاركض لاهثاء وراء خراف جدي الغائب هو الاخر في حضرة السماء؟
بعدها في سن الحادية عشرة صرت احدى سبايا المدينة. هناك ايضا لم يكن للركض حدود.

وانت كنت دوما الحاضرة الغائبة والقريبة البعيدة.
امي إن وجدتِني اليوم غائبا في حضورك فلا تحسبي الامر عقوقا او نكران. كلا، فانا نكرة من دونك وانا لا أُعرّف إلا بك. ولكن سائلي الايام التي حكمت علينا حكمها.
ابتلعتني المدنية كبئر إذ تسقط فيها قطعة معدنية. لا تترك منها اثرا سوى موجات زائلة على سطح الماء، لتسكن القطعة المعدنية في قعر البئر بلا حراك، وتلتصق بالوحل. وانا كذلك بالفعل التصقت بوحل هذا المكان .

***
قد لا تتصورين كم هذه المدينة موحلة، وكم يسقط الناس في وحلها. وحل من كل لون وصنف. واكثر ما نغرق فيه هو ذوباننا في شبكة من الانشغالات الفارغة التي تسلب منا الماضي والحاضر. وننسى يوم المولد ونغفل عن الممات. ننسى اننا بشر ونغفل عن انسانيتنا.

***
امي!
كم انا مشتاق لقريتي / لقريتك البريئة الجميلة النقية التي استحضرها في ذاكرتي لا اكثر.
امي!
اشتاق لليوم الذي كنت تصففين فيه شعري قبل ان تبعثي بي الى المدرسة في سن الخامسة.
امي!
اشتاق لملس يديك اذ كنت تمرريهما على ظهري وانت تغسلين لي كل جمعة اصعد إليك من الوادي.

امي! كم اشتاق لرائحة الثياب التي البستنيها في الصف الأول الابتدائي.
امي !
هل ما زلتي تحتفظي لي بالكاس الخزفية التي كنت اشرب بها شاي الصباح.

امي !
انا الغريب
وانا البعيد
وانت يا زهرة ملائكية
تفوح منها رائحة الامل
وتسيل من اجلها الدموع

الحب بين علم الاعصاب والعلوم الإنسانية

الحب بين علم الاعصاب والعلوم الإنسانية (مقال مترجم من الفرنسية) ترجمة مصطفى ناجي الجبزي افتتح في شهر أكتوبر من العام المنصرم معرض استث...