الاثنين، 2 أبريل 2018

عسكري لا يجيد القراءة

في المسافة الفاصلة بين محطة القطار وقصر فونتين بلو قادمين من باريس اخذنا حافلة عمومية. ظللنا واقفين أنا ومروان نتحدث بصوت مرتفع عن اليمن المنكوب بالجغرافيا وغباء العسكر وجنود الرب.
كنا على مقربة من باب المنتصف في الحافلة وكنا نقف على رأس سيدة عجوز ما انفكت تنظر إلينا فبادرتها بالحديث: معذرة سيدتي. يبدو اننا ازعجناكِ.
لا. لا بأس. هل أنتما إيطاليان ؟
لا. جغرافيا، نحن بعيدون جداً عن ايطاليا لكن لا مانع ان نحمل بعض طباعهم وضجيجهم في الحديث والتلويح بالأيادي. نحن في الحقيقة من اليمن.
وإذا بها تشهق: حقاً أنتما من اليمن؟ 
وشرعت تحكي قصتها مع اليمن وانا أترجم لصديقي بعد ان عرّفنا بنفسينا إليها.
يا إلهي. لقد زرت هذا البلد قبل اثنتي عشر سنة. كنت حينها أقوى على السير. وقضينا في رحلة سياحية ما بزيد على أسبوعين. كنا في سيارة رباعية الدفع. وكنا على الدوام مع السائق نفسه. طفنا في البلاد. مررنا على كل المدن، شمالا وجنوبا. ذهبنا الى حضرموت وزرنا عدن ومشينا في حراز. 
أسهبت السيدة في الحديث عن رحلتها إلى اليمن وتذكرت فجأة أحداثا مضى عليها عقد من الزمن. كان تواجدنا في الحافلة كقدوم قميص يوسف. استنهضت العجوز ذاكرتها السحيقة. كانت تسرد لنا مواقف حصلت لها وتضحك كصبِّية. كانت تضحك وتضع يدها على فمها تلجم جموح الذاكرة. تحدثت عن القات وعن صديقتها التي خاضت التجربة ثم تقيأته في المساء. وعن السائق الذي لم يتبدل طيلة الاسبوعين وكان في النهار يجلس على كرسي القيادة برفقة ربطة قات كبيرة وكلاشينكوف. 
تتذكر السيدة العجوز صنعاء جيدا. لأنها أحبت هذه المدينة بمناخها الطيب وطابعها المعماري المتفرد ولأنها كانت نعيما في صيف مدن الساحل والصحراء. بيد ان أغلى ذكرى تثير لديها سلسة هستيرية من الضحك عن المدينة كانت انهم تاهوا في الطريق فاستنجدوا بعسكري يمني ليرشدهم الا انهم اكتشفوا ان العسكري لا يستطيع القراءة. 
نحن ايضا انفجرنا ضاحكين لأننا منذ ثلاثة أيام ونحن نؤكد على بلادة هذا العسكري تحديدا الذي اضاع البلاد والعباد. 
قلت للسيدة، نتمنى ان تجددي زيارتك لليمن وان تعيشي ذكرياتك مرة اخرى. فقالت : ما عاد بوسعي السفر. لقد تقدم بي العمر. فسألتها كم عمرك الان؟ التفتت عن الشمال واليمين وقالت : ٩٢ سنة. سأنزل في المحطة القادمة. لدي موعد مع طبيب الأسنان. 
- سيدتي. أيمكننا ان نلتقط معك صورة؟ 
- ماذا ؟ 
نريد صورة معك من فضلك؟ 
- بكل سرور. 
ثم انصرفت الى موعدها عند طبيب الأسنان. بينما سرحنا في العسكري الذي ما يزال لا يجيد القراءة.

اين الصورة يا مروان؟ وإلا سأبوح بسر صورة هذا المنشور.


الحب بين علم الاعصاب والعلوم الإنسانية

الحب بين علم الاعصاب والعلوم الإنسانية (مقال مترجم من الفرنسية) ترجمة مصطفى ناجي الجبزي افتتح في شهر أكتوبر من العام المنصرم معرض استث...