الخميس، 5 يوليو 2018

صنعاء التي في الخاطر


صُباحه من الصبح!
يحب ابي ابراهيم الحمدي الى درجة اني - غيرة او ضجراً- صرت اتحامل على ابراهيم الحمدي. بلغ بأبي الحب ان كان يتلو علينا عشرات الخطب والكلمات التي القاها ابراهيم الحمدي. لم يكن ابي يجيد الصنعانية وكان يتلوها علينا بلهجته التعزية حتى كنت اشك بان ابراهيم الحمدي كان صديقا لابي في الطفولة او انهما عاشا معا في عدن في ريعان الشباب في نهاية ستينيات او بداية سبعينيات القرن المنصرم او ان ابراهيم الحمدي كان أحد ابناء الجبزية.
كان ابي كلما ذكر الحمدي - وهكذا يسميه فقط دون نياشين او القاب- يتلمع في عينيه بارق المحب المخلص والمريد المطيع. لابي شارب كث وحاجبين دثمين. وهكذا كان الكلام يتجسد بإيماءات صادقة.
يتحسر ابي على ايام ابراهيم وعز اليمنيين في السعودية. يذكر على نحو لاذع ما قاله مذيع ال بي بي سي يوم مقتل الحمدي. " ان اليمن انجز في ثلاثة سنوات ما يمكن انجازه في ثلاثين سنة سيتراجع ثلاثين سنة."
لست متأكدا من دقة هذه المقولة ولعل حب ابي للحمدي - كمعظم مجايليه - دفعه الى ابتكار تلكم الصيغة.
لم يخبرني ابي يوما ان ابراهيم الحمدي كان زيديا. او انه يتحدث بلهجة "الزيود" وينطق القاف جيما تعزية والجيم جيما قرشية والطاء غليظة.
كان ابي يحتفظ بصورة صغيرة لإبراهيم الحمدي بمعية ولديه يعرضها على زجاج "كَبَت" حانوته في صنعاء القديمة.
وعندما توفر لي ان استمع الى تسجيلات في اليوتيوب لإبراهيم الحمدي كنت مذهولا جدا من لهجته التي كانت مغايرة تماما لما رسمه ابي في ذهني.
قبل الوحدة بسنوات كان ابي قد رجع من السعودية واستقر به المقام في "الزُمُر" في باب شعوب من صنعاء القديمة، حين كان لكلمة برغلي وقع حاد.
وكان قد اصطحبني معه للعمل في حانوته الصغير الذي كان بالنسبة لي سُرة العالم ومنطلق اسراره. حيث كانت تصلنا اخبار العالم عبر اثير المذياع المحلي ويحرص ابي مساء كل يوم على البحث عن محطة بي بي سي. لم يكن ابي يقرا ويكتب الا النزر القليل لكنه شغوف بمعرفة العالم.
وصلت صنعاء قبل البدء بمشروع رصف ازقة المدينة بالحجارة وعرفت باب شعوب كسوق شعبي بامتياز يشتعل منذ الصباح الباكر نشاطا وضجيجا هو خليط من صياح رجال ونساء القبائل الواصلين للتبضع وبيع او شراء البهائم، من ضاربي الدفوف والطبول والمزمرين و"الدواشين".
كان لأبي اصدقاء من ذلك المكان منهم جربوش؛ السبتمبري الحقيقي بوجه مجعد وفم خال من الاسنان وهو محب لليمن والقات، كان مالكا لمنزل تقليدي مقابل متجرنا، والحيمي بائع الزبيب، رجل وديع باسم. والباكستاني، رفيع القامة بشارب ممتد ممسد، مرقع الاحذية، والداعري، الشاب الرقيق والنحيل شديد المزاح والمعاركة رغم ضعف بنيته ورقة طبعه، صاحب القرطاسية، والعذري، الرجل المعمم، انيق ويلبس جوخا طويلا وعليه ملامح حميَري اصيل، مالك البيت المجاور لبيت الشجرة واظن الشجرة من الارياف القريبة لصنعاء وكان يسكن في الروضة وله طباع راقية في التعامل.
كان ابي يأكل سلتة خُبانية من مطعم "توفيق" الذي كان لديه، الى جانب المطعم، محل بهارات يعمل فيه ابن اخيه وهو صبي بملامح اوزبكية، وكان ابي يشتري قات "ذروي" من سوق "فروة". لم تكن المخبازات كثيرة الانتشار في تلك المنطقة، بل كانت منطقة محتفظة بهويتها الى حد كبير وكان طعامها يتنوع بين سلتة في الظهيرة وفول او دقة في الصبح وفول في المساء. كان هناك بائع فول هو مطعم "مبروك" ومحل "كابع" للشاي الاحمر او "المفوّر".
كانت هذه صنعاء بالنسبة لي وكان العالم يبدا من هناك.
لم يكن ابي يقول هذا من مطلع او زيدي او هاشمي. كان ينسب كل واحد الى عزلته او قريته فيقول صاحب الحيمة وصاحب أرحب وصاحب اوصاب... وهكذا.
لم ينعت ابي احدا بالمتخلف.. رغم انه شهد شجارات عديدة مع جيران او زبائن سرعان ما تنتهي بالتصالح... وكان أقسى ما يقوله: قبيلي صُباحه من الصبح.
لكنه كان يفضل زبائنه من القبائل على سكان المدينة لانهم يحسمون خياراتهم فيقول عنهم: مقطّبين.
كما لم يكن لأبي مسجد مفضل يذهب إليه عنوة بل كان يصلي في جامع خضر او في الزمر.
كنت حينها لم ابلغ بعد العاشرة. وفي العام تسعين كان ابي مبتهجا ومتوجسا جدا حين توقيع الوحدة. تابع تفاصيل تلك المراسم اول بأول وتسمر امام التلفاز بابتسامة عريضة وأحيانا بخليط من الدموع.
جربوش، كان يود ابي كثيرا وكان قد عاش حرب سبتمبر وعرف ضغائن 68. قال لأبي: ما عيخلوهمش اصحبانا، انا بين اعرفهم، هؤلاء اوغاد. فعلق عليه ابي: يا عم جربوش! خلاص طوينا الصفحة وبدينا صفحة جديدة.
كان في الجوار قسم شرطة يقع في الركن من مدخل باب شعوب. كانت نظراتنا اليه متوجسة دوما وكان مصدرا لشجارات عديدة. ولم يسبق ان دخلناه يوما ما بل كنا نتحاشى الاقتراب منه.
قبيل المغرب يجتمع الناس بعد عودتهم من العمل وفي العادة كانوا عمال بناء "ومقصصين" ما تزال عليهم اثار العمل بثيابهم المطلية بالجبس ووجوهم التي تخططها قطرات الدهان المتساقطة وعيون محمرة من الارهاق والجبس. لم تكن للسياسة مساحة في أحاديثهم. كانوا يتحدثون عن البلاد والذري والمطر والزواج والمسافر القادم الى القرية. وينتظرون الفرصة القادمة للسفر الى عند " الجهال". كانت المواسم عديدة منها المولد، وجمعة رجب والشعبانية وعيد رمضان وعيد عرفه...
كان الناس يحبون شراء الجديد وينفقون على ابناءهم وزوجاتهم ويقولون: دراهم العيد صدقة.
كانت هذه المقولة تعجب أبي كثيرا لأنها تدر عليه دخلاً ويبيع أكثر.
لم يكن أبي يحب علي عبد الله صالح وكان يرى فيه قاتلا للحمدي فحسب. وكان يقول إنه لا يتورع عن القتل وقد قتل زوجته وصفى رفاقه فكيف بالخصوم.
اما انا فقد قضيت جل عمري - عدا اسفاري القليلة- في صنعاء ولا اعرف مدينة مثلها. بل اني لا اتصور يوما اني سأعيش في مدينة اخرى. عشت في هذه المدينة وتحدثت لهجتها بكل حب. كسبت ما كسبت من الاصدقاء.
....
اليوم تكتسي صنعاء لهجة مقيته من الكراهية والكراهية المضادة. مدنية أهلها لم تقاوم البؤس المقدس القادم من الكهوف، حتى أجدني متهما بالمناطقية والعنصرية.


4 فبراير 2015 

الحب بين علم الاعصاب والعلوم الإنسانية

الحب بين علم الاعصاب والعلوم الإنسانية (مقال مترجم من الفرنسية) ترجمة مصطفى ناجي الجبزي افتتح في شهر أكتوبر من العام المنصرم معرض استث...