الثلاثاء، 24 يناير 2012

لتوه خرج من غرفة العمليات

لتوه خرج من غرفة العمليات
 القاهرة
الفاتح من أكتوبر 2011 

بملامح جافة، ترفس الممرضة الباب الزجاجي الذي يصل الغرفة حيث انتظر  منذ أكثر من ساعة وغرفة العمليات الباردة بطبعها، وبين يديها طفل لا يتعدى الرابعة يرتدي (تي شرت) اسود بحواشٍ بيضاء في الاكمام والياقة وسروال رياضي كحلي اللون مقصب في الجوانب بلون احمر داكن.
تتقدم الممرضة إلى السرير على عجالة بينما تتدلى قدما الطفل كبندول زمن مهترئ
كانت تعرف أني والد الطفل الذي بين يديها وان أمه هي الاخرى ترقد في الغرفة البادرة تحت رحمة مباضع طبيب ما.
رمت (الأبلة) الممرضة بالصغير على السرير والتفتت نحوي وقالت لي بلهجة مصرية : "لسه ما فأش". أي لم يصحُ بعد.
كانت كلماتها جافة ككرسي خشبي مغروس على قارعة الكلام انهكته الشمس والمطر.
اقتربتُ من إلياس وانحنيتُ نحو جسده المسجى اتأمل وجهه واصغي لما يقول. لم يكن يقول شيئا، مجرد حشرجات لا أكثر، كان راقدا على جنبه الأيمن بوجه شاحب وعينين شبه مفتوحتين.
كانت عيناه مقلوبتين إلى الأعلى فلا يظهر منهما إلا جزء يسير من سواد القزحية في خليج من بياض منهك.
عميقة هي جشرجاته ومتكررة بانتظام بينما كانت دمعة تتشكل على الجفن وتتدحرج  برشاقة كطفل عاري يسحب قميصا ابيض لجده الغائب. تسكن الدمعة عند ملتقى الجفنين ثم تتكور وتثبت في مكانها بلا حراك إذ تخذلها قوانين الفيزياء التي لا تعرف تأثير (البنج).
لبرهة وأنا أحملق في الدمعة وأرى فيها صورتي ضئيلة ليس لها حول ولا قوة في تلك اللحظة.
مرات كثيرة استقبلت فيها شخصا يقرب لي لتوه خرج من غرفة العمليات. لقد كان الأمر لأربع مرات مع أمي ومرة مع اختي ومرة مع أبي.
أمي، رغم سمرتها البشوشة، كانت تخرج بوجه اصفر شاحب وشفاه جافة بلون التراب وتلوح بيدها في السماء. وفي المرة الأولى كانت تئن وتئن وتناديني: أخوك سيسقط من الشرفة.
أما اختي فقد احتضنتها من يدي الممرضين فشممت رائحة (البنج) وشعرت بالدوار وكدت اسقط انا وهي. لكن ابي خرج متأخرا وقد عاد إلى وعيه بينما كان جسده يطفح برائحة المخدر حتى اني تحاشيت الاقتراب كي لا اهوي على الارض.
مع إلياس كان الأمر غريباً فقد وقفت الى جواره وانحنيت عى جسده؟ انحنيت كشجرة طلح قصفها البرق للتو ولا تزال خضراء مبتله لكنها مكسورة من المنتصف. هكذا كان احساسي حينها. مررت يدي على جسده الصغير، كان يرتجف كجرو مبتل.
يده اليسرى ممدودة على الفراش كعصفور سقط على الارض ويحشرج وهو يرقص رقصة الألم.
طابقت يدي براحت يديه الباردة الناعمة وشددت على ساعده ثم انزلقت يدي على ظهره وادرجت راحتي من اسفل الـ تي شرت الانيق حتى الرقبة. شعرات كالعطب تسكن رقبته النحيلة. شددت على ساق قدمة ووضعت يدي على اخمص القدم التمس الدفء والحرارة المعهودة فيه. اقتربت اكثر لاتشممه.
كانت رائحته هي اللارائحة وتسائلت حينها : آلهي هل للموت رائحة؟ وهل للحياة رائحة؟
اخذتني ذاكرتي إلى نحو قبل عامين وقلت لنفسي:
سامحني يا صغيري؛ ما إن اكملتَ عامك الثاني حتى هرعت احملك الى الاردن لتخضع لعملية فتق إربي وها انت تشرف على الانتهاء من عامك الرابع وتجد نفسك على سرير عليل في القاهرة بعد عملية انتزاع اللوزتين. فماذا ينتظرك بعد عامين من الآن؟
هل صرت اختزالا لوطن ولد هشاً تنتابه الجراح بشكل دوري؟

اتذكر قبل سنتين عندما كنت اشرح لأحد الاصدقاء عن اعراض مرضك يومها وقلت له عنك: عندما يبكي تنتفخ خصيته اليمنى على نحو مفجع.
لم تكن حينها قد اكملت العام الثاني وكانت خصيتك تنتفخ وتصبح وردية اللون تثير الهلع كما قالت لي امي ؟
يومها فقط لم يكن اللون الوردي يثير البهجة والانتشاء.

صمتَ صديقي ذاك هنيهة وقال: يأتي الناس إلا الحياة ويدخلون معتركها وينتهي بهم الحال إلى تورم خصيهم أما ولدك هذا فقد جاء لتوه إلى الحياة بخصية منتفخة.

الحب بين علم الاعصاب والعلوم الإنسانية

الحب بين علم الاعصاب والعلوم الإنسانية (مقال مترجم من الفرنسية) ترجمة مصطفى ناجي الجبزي افتتح في شهر أكتوبر من العام المنصرم معرض استث...