الأربعاء، 22 سبتمبر 2010

حاجتنا الى اجتراح نسق تفكير

هذا مقالي الاخير الذي صدر في صحيفة النداء قبل اسابيع قليلة



حاجتنا الى اجتراح نسق تفكير
مصطفى الجبزي
28 يوليو 2010

قبل اشهر ليست بالبعيدة، مات عالم الانثروبولوجيا والاجتماع الفرنسي كلود ليفي شتراوس عن عمر يناهز المائة وقد ترك ورائه اعمالا قيمة جدة هي حصيلة عمر واجتهاد فكري فريد. ولكن كان اللوم يلقى عليه رغم "مآثرة الفكرية" في أنه لم يشكل في كل نتاجه نسقاً فكرياً.
قبل ايام وقع نظري في "غرزة" احد الاصدقاء على الصفحة الاخيرة من ملحق الثورة الثقافي وقرأت في ذلك العدد القديم الذي يعود الى العام 2009 في عمود على يمين الصفحة مقالا - ان جاز تسميته كذلك نظرا لحجمه - للاستاذ خالد الرويشان يقول فيه – وكان ذلك عقب اعلان منح الدكتور عبد العزيز المقالح جائزة العويس - ان هذا التكريم هو لليمن برمتها وانها رسالة اخرى تقول في ما معناه :"في اليمن الذي يصوره الاعلام على انه ملاذ للقاعدة ومصدر اقلاق للاخرين، يوجد في هذا البلد ايضا وجها حضاريا اخر.
نعم لذلك التكريم لقامة كالتدكتور المقالح دلالات كثيرة وهي تكريم لليمن وعقولها. ولكن – وانا هنا لا استطيع سوى تسجيل كامل حبي واعجابي للدكتور المقالح الذي لا تغنيه كلماتي هذه فيه في شيء- ليس في اليمن فقط غير المقالح، او لنقل، هناك اقلام كثيرة وعقول قادرة على ان تبرهن بانها ايضا من تربة هذا الوطن. ولكن اين هي؟
لا اقصد ذكر اسمائها ولكن اين نتاجها؟ وانا هنا ارى ان تكريم الدكتور المقالح يطرح فكرة دراسة التكريم بحد ذاتها من حيث اسباب جدارة الدكتور بها. وهي بالتأكيد ليست لاعتبارات شخصية او اقليمية او ذات ابعاد سياسية او استرضاء لقوة يمنية سياسية يقصد من التكريم كسب رضاها. ليس من ذلك في شيء على الاطلاق. التكريم كان اعتبارا لجهد الدكتور المقالح ونتاجه الفكري على الصعيد القومي والعالمي ان جاز لنا القول او تعبيرا عن امانينا.
بصيغة اخرى، ما هي البيئة الفكرية التي خرج منها المقالح ليكون هذا الاسم العلم؟
فقد كتب في الشأن الاجتماعي والثقافي والادب والحياة اليومية واثبت انه يمني بالاصالة وهو مع ذلك عربي اللون عالمي الهوى. فماذا اذن عن الكتاب والمفكرين اليمنيين الاخرين؟
الساحة لا تخلو ولم تخلُ يوما من فرسان كثر. ولكن كيف يتم التميّز والتمايز؟
لست ادعي المقدرة على تقديم اجابة لمثل هذا السؤال لانه مدعاة لدارسة متعمقة في الواقع اليمني، الثقافي والاجتماعي والسياسي...
ولكن ما يهمني اليوم هو التالي: هل بيئتنا اليوم عقيمة عن انتاج تفاعل فكري يتعامل مع مدخلاتها ويتدارس شأن هذه البيئة؟ ام ان عقولنا ليست قادرة على استنطاق هذه البيئة وفهم دواخلها؟ على نحو اخر، لماذا نفتقر الى نسق فكري يعنى جوهريا وشموليا بقضايانا؟
ان عدنا الى المقالح فهو من نتاج المدرسة التقليدية وهو في ان ابن "المدرسة الحديثة" (بمعناها الواسع الذي يستوعب المعاصرة والحداثة والعلوم والمناهج الحديثة) أي رضيع اللحظة الراهنة. وله اتراب من جيله لم يدخروا جهدا في الاشتغال في الشأن اليمني. لا اريد حشر اسماء كثيرة، فلا ذاكرتي ستسعفني على ذلك ولا معرفتي وقراءاتي ستصدقان في هذا الشأن. ولكن كان في كتاباتهم واعمالهم اطار جامع يعكس انتمائهم – ولست هنا اشكك بانتماء الاخرين او الجدد – واندماجهم وسعة همومهم ومشاركتهم الشأن العام حتى يترائ لك انهم من صانعي تلك اللحظات. ولكي اوسع دائرة المقصودين سأشير، كدلالة على نوعية ذلك الجيل لا اكثر، الى كتابات الاستاذ عبد الله البردوني التي عنت بالشأن اليمني حتى يخال لك ان البردوني هو اليمن وان اليمن هي البردوني..
في وقتنا الحالي تغص ايامنا باحداث متشعبة ومنها ما هو جوهري وحاسم في حياة اليمنيين او اليمن ولكن لا نجد اشتغالا فكريا يستوعب هذا الكم من التفاعل والسبب والنتيجة.
يمكنني ان اسرد اسماء كثيرة من الاقلام التي تشغل حضورا مكثفا في الصحف وفي المطبوعات الاخرى كما ان الجامعات اليمنية اليوم باتت تأوي اعدادا كبيرة من الاكاديميين اليمنيين وكلٌ يساهم بما تيسر له من الكتابة والتفكير والتنظير. ولكن، لم يتوافر بعد نسق تفكير يستوعب اليمن وما يعتمل فيه ويرسم خارطة لاستشفاف طريق المستقبل.
هذه هي وجه نظرنا التي سنعمل على الدفاع عنها بالتاكيد وبطرقنا التي تتوافر علينا.
 في صياغة اخرى: لماذا نجد الكتابات سواءً الصحفية او السياسية او الفكرية او التاريخية... التي تصدر في ارجاء البلاد او عن ارجاء البلاد تتشعب في طرق شتى غير قادرة على رسم ملامح رؤية؟
ولكن أي رؤية نقصد؟
رؤية تتشرب روح العصر وتنهل من وسائله وادواته وتعنى بواقع اليمن وبحقيقة وجوده التراثي والراهن وتستبصر طريقا لمستقبل يجسّد التطلعات ويعيد الاعتبار. والرؤية هذه هي تعريفنا للنسق المطلوب من وجهة نظرنا.
إذن هل غياب النسق الفكري والتفكيري هو مسألة منهج؟ ام فقدان للحساسية العامة؟ ام فتور في عمل فكري واسع الابعاد؟
في حديثي مع بعض الاصدقاء حول هذه القضية ومسألة الغربة التي نعانيها - نحن ابناء جيلي ومن هم في سني او اكبر بقليل وبالتالي اللاحقون ايضا – خصوصا عندما نقرأ في كتب جيل الثورة ومن هم قبلهم ومن هم بعدهم بقليل، "صديقي" الكاتب محمد عثمان وصل الى خلاصة ما مفادها ان الجيل السابق – لنقل جيل المقالح ومعاصريه – كانوا نتاج المدرسة التقليدية واهتماماتها وقضاياها فيما نحن نتاج "المدرسة" التي لم تنجح في غرس قيمها وبالتالي تسببت في انسلاخنا عن ذلك التيار. وان علينا مراجعة منابعهم والتي سنجد انها تشاركنا اهتماماتنا وتمثل حالة تقدم تفكيري بفضاء رحب يستوعب اليمن بكل مكوانته وجغرافيته.
انا شخصيا لا اجد ان "المدرسة" جانبت الصواب ان كانت تقصد ذلك. فعملية التحديث تقتضي احيانا خلق عازل فكري بين جيل واخر، يفصل بين القديم وادواته وطرق تفكيره وربما قضاياه ان اقتضى الامر والحديث وملحقاته. ولكن إلي أي مدى نجحت المدرسة في ذلك؟ المدرسة هي وليدة العصر الحديث وتنقل معارفه ومناهجه وطرق تفكيره ومعالجاته للواقع والنظر الى هذا الكون. فهل كانت المعارف التي نتلقاها تعكس هذه الروح للمدرسة؟ وهل استطعنا ان نخلق بيئة تجد المدرسة فيها البيئة الحاضنة؟ بمعنى اخر على انغمسنا فعلنا في عالم اليوم؟
وفكرة الصديق محمد عثمان التي اشاركه فيها جزئيا تعكس مقدار الفشل في مهمة المدرسة. وهذه لها اسبابها التي لن نخوض فيها.
رغبة في الدفاع عن فكرتنا الاساسية، سنجد ان الجيل السابق الذي سعى الى التعبير عن اليمن بتطلعاته وهمومه في اطار شامل ينحو منحى الموضوعية – ما استطاع- ويمثل الضمير الجمعي والصوت الطلائعي وجماعة التحديث كان في الاصل قد خرج من رحم التقليدية وتشرب رحيقها وبعدها الوطني والقومي والعقائدي ايضا. فالمدرسة التقليدية كانت تعنى بعلوم القران والفقه واللغة والشعر والاشتغالات العقائدية (الفلسفية ان جاز اعتبارها كذلك) وتاريخ امة يطل على مدار القومية العربية بعد ارتكازه على يمنيتها وقحطانيتها احيانا. فيما المدرسة الحديثة تقدم كماً معيناً من المعارف في علوم شتى تضمنت الى جانب اشياء اخرى اساسيات العلوم البحتة و قادت فيما بعد الجميع الى الفصل بين المعارف بعد أن تشعبت وفرضت عليهم الجدال الدائر في الفكر والاديولوجيات في الغرب الذي نستورد منه كل المعارف. لذا نال الجيل القديم حصة وافرة من تجذره ثم انتقل الى العصر وهو يستند من ناحية الى اسس موروثه، ولكن محمل بتناقضات القديم والحديث والعقل والميافيزيقيا. على ان الجيل الذي دخل المدرسة الحديثة تلقى علوما ومعارفا "غربية"، وعُرِض عليه جدل ليس من افرازات بيئته لم يتمكن من تمثله والتقدم به والانتاج فيه فيما هو يعيش في بيئة تقليدية اكثر افتقارا للتنوير القديم وتعاييش حالة رفض للجديد.
ولهذا كان الجيل القديم (وانا هنا لا اريد تحميل لفظة القديم اي نعت قدحي) قد خطى خطواته الاولى وفق نهج شمولي لم ينضج بعد كإطار منهجي لكن مارس نفسه على هذا النحو، فيما الجيل الجديد أُقحِم في تشعبات المناهج والعمل الجزئي.
اهم من ذلك ان الجيل الحديث يغرق شيئا فشيئا في بحر الحداثة والمدينة واخيرا العولمة وكل هذه تستند على الفردانية وذوبان الهوية والاشتغال على مواضيع متقلبة ونابعة من بيئات اخرى وان كان هذا الانغماس مشوها في احيان كثيرة.
وفقا لما تقدم، يمكننا بكل تهور الحكم على المسألة بأنها إذن مسالة منهج. فقد كرسنا فردانيتنا في تناولنا للشأن العام ولم نستطع بذلك استيعاب قضايا وطن. واذكر هنا ما كتبه الاخ نبيل الصوفي عن غياب الاهتمام بجيل الشباب سواء من القائمين على السلطة او المشتغلين في الشأن العام من كتاب ومفكرين. كان محمود ياسين قد سبقه في ذلك بأن قال بان من يديرون شأننا او ينادون بادراة شأننا هم جيل لا يحفل بنا ويريد تكريس مفهمومه هو لتطلعاتنا.
انا اتساءل هنا هل يمكن تناول شأن الشباب في معزل عن بقية الشرائح؟ ثم من ينادون بوجهة النظر هذه هل سيظلون شبابا الى ما بعد عشرة او عشرين عاماً؟ لذا مرة اخرى نرى انه من الصعب تجزئة القضايا.
في تجربة اخرى هي اشباع لما تقدم. نجد ان الساحة الثقافية تشظت الى اجيال من ناحية والى تقسيم وفقا للنوع الاجتماعي. فالمرأة اشتغلت على همومها لا اكثر والتفتت الى قضاياها على نحو خاص. جيل الشباب حاول اشتقاق دروب جديدة يخالف فيها الكبار ويثبت حقيقة وجوده واحقية تسيده فيما "الكبار" تمسكوا بالاقدمية واسبقيتهم الى الكراسي وكرسوا تهميش الاشبال.
تشظت الاهتمامات اذن، وبات كل يغرد في سرب خاص به.
لكن هناك نقطة اخرى هي اكثر اهمية وهي نتيجة لسابقتها. وهي ان الاشتغال على قضايا جزيئة استغرق وقتا طويلا لم يخرج بنتائج نوعية - نظرا لاسباب عديدة مرتبطة بطبيعة التغيير وكيفية الاشتغال على الهدف وتحقيقه ثم ما هي الوسائل التي تم الاستعانة بها -  ولّد في الجميع على نحو جزئي ايضا فقدان الامل ليكون حاصل هذا الواقع فقدان امل جمعي. وهنا ماتت الاحلام الكبرى, تم خنقت التطلعات الجمعية. وبما ان الكل الجزئي الفرداني لم يؤول الى نتيجة، لم تسع "الاطراف المعنية" الى طرق باب النهج الشامل. ففقدت الحساسية العامة تجاه الشان العام.
 
اما عن العمل الفكري، وهو نتيجة لمقدمات سابقة. ففي الجيل الجديد الذي تربى على يد "المدرسة الحديثة" والتي لم تفلح في تجسيد اهدافها ولم تتوافر لها بيئة مناسبة, عندها قُدِّر للجميع ان يطفوا على اللااسس المنهجية. وهذه حالة يؤكدها الناقد سعد يقطين في مقابلة له في مجلة دبي الثقافية لشهر يوليو 2010 فيما يخص السياق الثقافي والادبي في المشرق والمغرب إذ يؤكد ان المشرق لم يشتغل على المناهج بما يكفي وان المغرب لم يصل بعد إلى خلاصة الاشتغال على المناهج. ناهيك عن ان المدرسة لم تؤسِس لبنية ثقافية غنية ولم تستوعب عناصر الواقع اليمني في حالة المدرسة الحديثة في اليمن. ولم تُدر على أسس مؤسسية تغرس روح الوطن في الطالب، ليستمر الامر تباعا نحو الجامعة وهكذا. فكيف سيكون النتاج الفكري إذن؟
أتساءل كثيرا ما اذا كان هناك اهتمام للاشتغال على الميثاق الوطني للمؤتمر كخطوط عريضة وتوجهات نحو نسق فكري؟ أو إن كانت رؤية اللقاء المشترك للاصلاح الوطني هي نتيجة اشتغال فكري يمثل نسقا فكرياً؟
أقرأ ما يقع في متناول يدي لمحمد الحبيشي، لبن دغر، للدكتور ياسين، للظاهري، للبتول، للدكتور فقيرة، لعبد الباري طاهر، ولكتاب اخرين. كما تغريني كثيرا كتابات فكري قاسم، مفارقات منصور هايل، انامل ابتسام المتوكل، مدرات الدكتور شجاع، منهجية الدكتور الصلاحي او الدكتور عادل الشرجبي. وتستهويني اركيولوجيه محمد احمد ناجي. واسماء كثيرة من دكاترة وكتاب وصحيفيين. لكن اجدني اقسّم نفسي في كل هذه الانتاجات لأنها لا توحد رؤية ولا تشكل منظورا.  
نحن فعلا بحاجة الى رؤية جشتالطية تعني بانطولوجيا الانسان اليمني في مجموعه وليس في جماعات. نحن بحاجة الى خلق مسار تفكير شامل يتناول مسألة التحديث في اليمن مثلاً او تكوين جمهور الدولة او ثقافة المواطنة او افاق العلمانية في اليمن – في ظل الجدال والتنافس القائم بين التيارات الدينية المختلفة- او كيفية تهيئة مجتمع مدني.  ولتتشعب وتندرج تحت هذه العناوين عناوين كثيرة وبلا عدد. لماذا مثلا لا ندرس التهرب الضريبي والجمركي من منظور ثقافي، لماذا لا ندرس العلاقة بين المواطن والدولة من ذات المنظور؟ او مثلا فشل الشراكات التجارية البسيطة كمدخل لدراسات الشراكات المجتمعية او السياسية؟ ..الخ من القضايا التي لا تنتهي .
مع التوكيد على ان حاجتنا الى نسق مثل هذا هي حاجة ثقافية بحتة وبالتالي ينبغي ان يكون نسق ثقافي بحت.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الحب بين علم الاعصاب والعلوم الإنسانية

الحب بين علم الاعصاب والعلوم الإنسانية (مقال مترجم من الفرنسية) ترجمة مصطفى ناجي الجبزي افتتح في شهر أكتوبر من العام المنصرم معرض استث...