الأربعاء، 6 يونيو 2012

في مديح الآلة

في مديح الآلة
(5 - 6 يونيو 2012 )
كان موعد الرحلة الثالثة والنصف عصرا لتنطلق الطائرة من صنعاء إلى الدوحة ثم في التاسعة والنصف ليلا من الدوحة إلى دهلي (يقال إن اسمها عند العرب كان كذلك ثم تحولت إلى دلهي).
لكن سوء الأحوال الجوية وموجة الغبار حالة دون ذلك فتأخرت الرحلة إلى موعد غير أكيد.
لذا، عليك يا مصطفى ان ترجع بسرعة الى عند عبد الرحمن تأخذ منه المؤنة وتفر إلى بيت وليد.
في الساعة السادة والنصف تتصل بي زميلة الدراسة وضابطة طيران القطرية بأن موعد الرحلة سيكون في التاسعة والنصف ليلاً.
في المطار أطرح عليها، بوجه مكسور لأكثر من سبب: وماذا عن رحلتي الثانية الى دلهي؟
قالت: سيكون وصولك بعد غد الساعة الثالثة وخمسة عشرين دقيقة صباحا. "يعني عتجلس يوم كامل في التوحة".
"أصحابنا" الذين يقولون إن بند بدل السفر موقف تماماً على الموظفين من أمثالي يتعاملون معنا وكأنهم لم يسافروا أبداً. صحيح، تكفلت السفارة الهندية بالتذكرة لكنها لم تتنبه لطارئ كهذا وهي لم تعرف أني سأقعد ليلة ويوم في الدوحة وبما أني يمني الجنسية فلن أتمكن من الدخول إلى فندق، وإن كان كذلك. فمن أين لي مبلغ الدخول إلى فندق؟ ثم ماذا؟ هل سأقعد في المطار 24 ساعة كالمبعدين الذين ترفض المدن ابتلاعهم وتلفظهم المطارات واحد تلو الآخر.
***
الرحلة هادئة. لا يوجد ركاب كثر، وجبه خفيفة في المساء إلى جوار عربي (عربي بالمعني الانثروبولوجي والثقافي الغربي، يلبس ثوباً ابيض وعقال وشفاتين متدليتين كشفاتي البعير) لم يكف عن دعك وجهه المتغضن كفصيلة كلاب البيتبول. لم أتحدث إليه، كنت مرهقاً وممتعضا من أشياء كثيرة منها قدرنا على هذه الأرض. ربما فكرت كثيرا في أن الطبيعة ما تزال أقوى من البشر.
من نافذة الطائرة نظرت إلى الأسفل بين حين وآخر وجدتنا نحلق فوق حدائق نور باهرة بعد رحلة من ظلام الجبال والصحراء. بالمناسبة الصحراء ليس مظلمة. إبراهيم الكوني يقول إنها من طهرها لفظت الإنسان غير الطاهر ولم تأويه.
***
قبيل أن نخرج من الطائرة التفت إلي (العربي) وقال لي: الحمد لله على السلامة. بادلته التهنئة وسألته : يبدو أن الغبار هنا أخف. قال: نعم كبل يومين كان أكثر. بس الآن أخف. خلاص راح على اليمن. وابتسم.
بالفعل الخليج يقدم لليمن أشياء كثيرا منها الغبار أيضاً.
قلت له تكررت موجة الغبار هذا العام. فقال لي: بالفعل ما كنا نعرف الغبار من كبل. خلاص الدنيا تغيرت وما في أمطار والتصحر زاد.
شردت عنه لحظة أفكر في المخاطر الاقتصادية والبيئية والصحية لمثل هذا الوضع الذي يزداد تعقيدا. حركة النقل تسوء. أطفالي (وكأنهم صرّة الكون) منذ أشهر يعانون من التهابات حادة في الصدر تمنع عليهم رقادهم.إلي أين؟؟؟
نهضت لأحضر حقيبتي الصغيرة فرأيت صديق فرنسي يعمل في اليمن. تظاهر بنسياني تماماً. أفهم لماذا. لكني واصلت معه الحديث بالفرنسية.
أظن أن الحديث بلغات أجنبية يجعل الناس أكثر شجاعة. هناك كاتب جزائري كتبَ: أكتب بالعربية، وأصرخ بالفرنسية.
لا تنكروا حقيقة ان الكثيرين ما ان يريدون الحديث عن موضوع حساس وملفت للنظر (من قبيل الجنس مثلاً) إلا ويلجأون إلى استخدام الكلمة الانجليزية.
تشعبنا في مواضيع كثيرة فالرجل "لطيف" وكنت اعرف هذا من قبل. وربما نسيانه لي كان من حركات "اللطفاء" أمثاله.
ألا تلاحظون في حقيقة الأمر؟ يوجد "لطفاء" كثر يقدمون على اليمن من الأوروبيين والأمريكان" خصوصا في السلك الدبلوماسي.
هذا الفرنسي يحب الدوحة ولديه فيها أصدقاء كثر أكثر من حبه لدبي رغم سفره إليها مراراً. كانت أهم جملة لهذا الصديق أنه يجد دبي مدينة بلا روح. قلت له الأصدقاء هم روح الأماكن. حديثه ذكرني بصديق امتدح شرم الشيخ وكأنها مزار للحجاج.
نعم، كل يحج إلى قِبلته.
***
مطار الدوحة واسع جدا. لم أتعرف على ملامحه في الليل. لكني شعرت أنه كفيل بابتلاع نصف قطر.
انتظرت طويلاً في صفوف الركاب العابرين أو ركاب الترانزيت. بما أني سأبقى في الدوحة اكثر من 20 ساعة كان لا بد من مكان للنوم والأكل والشرب. طلبت ان يبعثوا بي إلى فندق. فرفض الموظف الفلبيني الشكل واللكنة.
سألته: أين مشرفك؟ فقال: هو ذاك.
ذهبت إليه. أسمر قصير شبه أصلع بشارب اسود نافر منضبط الاصطفاف كجوقة. هندي بالطبع.
سيدي...
أوكيه، ستذهب إلى الفندق ولكن انتظر، اجلس!

***
جلست من الساعة العاشرة ليلاً حتى الساعة الثالثة والنصف بعد منتصف الليل. تأخر الرحلة القادمة من صنعاء وتفويتي الرحلة إلى دلهي يعطني الحق بالذهاب إلى نزل. فأنا اعرف قواعد العبور وسبق لي وان عملت بهذه المهنة لأكثر من عام. أحببتها لانها عفوية وسريعة وليس فيها ملل. لأنك في اليوم الواحد تقابل آلاف الصور. لكنها مؤلمة عندما تصطدم باللوائح وتجبر نفسك على إزاحة مشاعرك الإنسانية. في المطار لا أحد يحب أحدا أو يكره أحدا. كلهم عابرون في وطن بلا عنوان. حتى عمّال المطارات لا يشعرون بالانتماء للمطار. فقط ينتمون لرواتبهم وفرص العيش والراكب الذي قد يدفع بقشيش. بالطبع هناك تميز بين راكب وآخر. مثلا الحسنوات والمتغنجات يحصلن على معاملة أفضل من الذكور بينما الرجال الوسيمين وذوي الملابس الفاخرة يلقون معاملة حسنة من الإناث وهكذا.
المهم القاعدة تقول إن لي الحق بالذهاب إلى فندق. لكن جوازي اليمني يحول دون ذلك. فقط لأني يمني.
سيدتي جوازي دبلوماسي وأنا ذاهب إلى منطقة أخرى ولست هنا للـ..
اعرف لكن هذه هي اللائحة.
في كل الأحوال حتى لو سُمِحَ لي بالدخول إلى فندق فمن أين سأدفع رسوم الفندق؟
الساعات التي قضيتها في المطار كانت لغرض مراجعة مصلحة الهجرة التي قد تسمح بدخولي إلى فندق فيما لو اقتنعت بجوازي الأحمر الداكن والتأشيرات التي عليه خصوصا إقامتي في أوروبا.
تصوروا مجرد الحصول على تأشيرة إلى أوروبا يمنحك امتياز. كل صفاتك الأخرى لا معنى لها. أوروبا أولاً.
لدينا مثل يمني جميل: حُبَة (قُبلة) من المليح ولا .... من الخيبة!
***
في الساعة الثالثة والنصف فجراً جاءت الموافقة بدخولي. لأني سبق وحصلت على تأشيرات دخول إلى أوروبا وأقمت فيها. أنا ما زلت يمني وجوازي أحمر.. ولكن تلك مبررات كافية للسماح لي.
وصلت إلى الفندق الساعة الرابعة والربع فجراً. من نافذة الغرفة أتطلع إلى حقل عمل وأصوات الآلآت يتكرر. نقّار الصخور يعوي ويدق في الأرض كساعة سويسرية.
استيقظت في الظهر وهرعت إلى النافذة لأتأكد من مشهد الليل. بالفعل أنا في مشهد من برنامج (مشاريع عملاقة).
***
في المطار أجانب كثر أقصد العاملين. العرب يوشكون على الاختفاء، العرب كل العرب. بدأ بعض الهنود يتحول إلى عرب بعض الشيء، أم هناك تقارب في الأشكال ومورفولوجيا الجسد بيننا. فقط مجموعة مغاربة يعملون في أكثر من مجال. يبدو ان مصر توقفت عن إرسال عمالة إلى الخليج. المغاربة أكثر حضورا. أجسامهم رشيقة، يتحدثون أكثر من لغة. وجوه جادة وبملامح قاسية في نفس الوقت.
بيتر، مصري واحد فقط التقيت. شاب مرح بنظرات واسعة وكأنه طبيب. هو بالفعل طبيب في ابتسامته بالنسبة للمسافرين الذين فاتتهم رحلتهم. من يمكنه مواساة شخص فاتته الرحلة وكل ما فيها من أحلام ومواعيد وتطلعات.
لم ننته بعد!

الحب بين علم الاعصاب والعلوم الإنسانية

الحب بين علم الاعصاب والعلوم الإنسانية (مقال مترجم من الفرنسية) ترجمة مصطفى ناجي الجبزي افتتح في شهر أكتوبر من العام المنصرم معرض استث...