الخميس، 8 مارس 2012

رقصة إلى الحديدة


رقصة إلى الحديدة
في موعد مع البحر كنا. كان سفرنا إلى الحديدة رقصة صنعائية بامتياز؛ خطوة للأمام، تليها أخرى، وأخرى للخلف بلين، بعدها وثوب جديد. فقد تعطلت السيارة الأخرى التي كانت تقل رفاقنا. كانت اصغر من تحدي الطريق وكنا أكبر من الصعاب، في لهفتنا لملاقاة البحر. لم تتمكن تلك السيارة الصغيرة في الحجم، الكبيرة في الأسرار والحكايا، من تخطي حاجز الجبل. فعادت إلى مربضها محرومة من لقاء البحر.
يخال للمسافر إلى الحديدة أن صعود جبل "عصر" والوصول إلى مقربة من قمة "النبي شُعَيب" يكفيان ليصل إلى البحر في قفزة لا أكثر. تبدو الحديدة عن أقدام الجبال. هكذا على الأقل هي تباشير البحر، كلما اقترب المسافر من الحديدة.
وللحديدة شوق كبير لا يخلو من الغموض كما هو اسم هذه المدينة التي تنسب إلى سيدة كانت تستقبل المسافرين في نزلها. الحديدة سيدة فاضلة كريمة، مدينة تلتحف الوقار لكنها كامنة بالفتنة والإغراء. إنها إيحاء بالاسترخاء وتدفق الرغبة، صيغة ما لتشكيل ذاكرة جديدة من المدهشات.
في مارس (آذار) تتهيأ الأرض لمضاجعة جمال الربيع. في اليمن تتهيأ الأرض بأن تتعرى من كسوة خضراء بعد شتاء انتظار خال من المواعيد. تلتمع أكتاف الجبال التي تستحم تحت الشمس. في (مناخة) كانت الجبال إلهة البحر خارجة منه مبللة تحدّق في السماء.
كل شيء ممكن. الرحلة مليئة بالمصادفات والمفارقات، فقد تلتقي في (سوق الأمان) بجماعة تقطع الطريق مثلاً، أو تشاهد عراكاً دامياً في "استراحة السلام" مثلاً.
يبدأ الهبوط نحو الحديدة، ويبدأ انفراج الرئة، تنشرح الروح، تشعر بهندسة أخرى للمكان ومعنى جديدٍ للمساحة.
"نقيل موسنة" يأخذك إلى كوكب آخر. يجبرك على النظر إلى الأعلى. الطريق هناك ليست أكثر من درابزين متعرج طويل. المنازل المعلّقة كقناديل الأضرحة تنظر إليك بعيون مسبلة نحو الأسفل، تغريك بالوقوف، تنافس البحر في الإغواء. لكن نداء الشاطئ أقوى.
في (حراز)، يمكنك الاستماع لنضال الإنسان والشجر، للبن ملحمة كفاح على جانب الطرقات. كل شيء يوحي بالشموخ. في السوق، لا تستغرب إذا وجدت ثوراً يمر في منتصف الطرق رافع الرأس يمشي الهوينى. فهو يستنهض في مخيلتك ملكاً من تبابعة حميَر.
عند (القَدَم)، ذؤابات الجبال تضرم فيك شوق الالتحام بالبحر، تتراص الأكمات كمراهقين ساعة احتشاد، ومقامرة صوب البحر. هناك البيوت لها زرقة البحر وتراب الوادي. اللون الرمادي هو جسد المنازل المربعة والمستطيلة الصغيرة على حواف الوديان. المنازل التي تتجاوز الأكواخ وتقل عن القصور تسطر حكاية انتظام وصرامة الإنسان هناك في تحديه للطبيعة. فقط المساجد ترتدي لحافاً أشعرياً أبيض؛ لمسة وقار، وصوفية.
أن تصل المدينة ليلا فهذه لحظة غرامية بحتة. لن تتوغل في التفاصيل، فقد تجد فيها ما لا يرضيك. لكنك ستنعم بفسحة خيال وأحلام يقظة دافئة. لن تتوانى في النظر إلى هاتفك، تتحسس أرقام أقرب الناس إلي قلبك، تفتقدهم وربما تستعيدهم في حلم حميم. لن تتخلف عن الكتابة لحبيبتك:
"طيفك هو الرفيق الألذ في هذه الرحلة، نسائم البحر تقولٌكِ، هدير أمواجه يحكي قهقهاتك، أنوار المدينة من خارجها تشعل في دمي ليلة أرجوانية معك..."          
في البحر، يغريك توالي الأمواج وانسحابها أن تذهب معها. أن تغرد غرباً. تذهب وتجيء، في أعماقك استجابة لنداء  قادم من السودان يعبق برائحة البخور وحكايات المساء. لكنك تعود إلى الشاطئ. ربما نسيت حقيبة العمر في صنعاء. ربما لم تحصل بعد على جواز السفر من مصلحة الحنين.
في الحديدة، أشياء كثيرة تحتاج للتأمل، وتحتاج للأمل أيضاً. لا تستغرب أيضا أن (مكتبة تهامة) تغص بالقرطاسية بينما المخطوطات هاجرت شمالاً نحو السعودية أو تناثرت في عاصفة نسيان. في الحديدة القصر الجمهوري مغروس كشجرة شيطانية زاهية بين أكواخ ومدن ليل فقير. الحديدة مدينة منقبة تعاقب نفسها بالسجن والامتناع. 
ثم العودة. بعد التهامة تتصاعد الطريق، تتراص الجبال علواً في صرح نحو المساء. الصمت ملاذ أثير. فقط يرافقك أبو أصيل، يهديك بعض أغانيه.
الربيع هناك لا يظهر إلا في ملابس نساء الريف. أما الطبيعة فقد أحجمت عن الاستعراض. المرأة هي الطبيعة إذن. أما الرجال فهم عابسون على حواف الطرقات. تنقرك نظراتهم حيث "المطبات"، أجسادهم المنهكة تستحق العناية. تستحق الحنو.          
مارس 2012

الحب بين علم الاعصاب والعلوم الإنسانية

الحب بين علم الاعصاب والعلوم الإنسانية (مقال مترجم من الفرنسية) ترجمة مصطفى ناجي الجبزي افتتح في شهر أكتوبر من العام المنصرم معرض استث...